-سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

فيها خرجت التُرك عَلَى السلطان سَنْجَر، وهم الغُزّ، يدينون بالإسلام في الجملة، ويفعلون فِعل التتار، فكانت بينهم وبينه ملحمة عظيمة، فكُسر سَنْجَر، واستُبيح عسكره قتْلًا وأسْرًا، ثمّ هجمت الغُزّ نَيْسابور، فقُتل معظم من فيها من المسلمين، ثمّ ساروا إلى بلْخ، فملكوا البلد، وكانت عدّتهم فيما قِيلَ مائة ألف خركاه، ثم أسروا سنجر واحتاطوا به، وذاق الذل، وملكوا بلاده، وبقوا الخطبة باسمه وقالوا: أنت السّلطان ونحن أجنادُك، ولو أمِنّا إليك لمكّناك من الأمر، وبقي معهم صورةً بلا معنى. -[767]-

وكانت الغُزّ تُركُمان ما وراء النهر، قَالَ ابن الأثير: لمّا تملّكت الخِطا ما وراء النَّهر، طردوا الغُزّ، فنزلوا بنواحي بلْخ عَلَى مراعيها، واسم مقدَّميهم: دينار، وبختيار، وطوطى، وأرسلان، وجغر، ومحمود، فأراد قُماج نائب سَنْجَر عَلَى بلْخ إبعادهم، فصانعوه، وبذلوا لَهُ مالًا، وأقاموا عَلَى حالةٍ حسنة لا يُؤذون ويقيمون الصّلاة، ويؤتون الزّكاة، ثمّ عاودهم قماج، وأمرهم بالترَّحُّل، فامتنعوا وتجمّعوا، فخرج قماج إليهم في عشرة آلاف، فهزموه، ونهبوا عسكره وأمواله، وأكثروا القتل في العسكر والرّعايا، وأسروا النّساء والأطفال، وقتلوا الفُقهاء، وعملوا العظائم، وخرّبوا المدارس، وانهزم قماج إلى مَرو.

وأرسل السلطان سنجر يتهددهم، فاعتذروا، وبذلوا له مالًا، فلم يُجبهم، وجمع عساكره من النواحي، فاجتمع معه ما يزيد عَلَى مائة ألف فارس، والتقاهم فهزموه، وتبِعوا عسكره قتْلًا وأسْرًا، فصارت قتلى العسكر كالتّلال، وقُتل الأمير علاء الدّين قماج وأُسر السّلطان وجماعة من أمرائه، فضربوا أعناق الأمراء، ونزلت أمراء الغُزّ، فقبّلوا الأرض بين يدي سَنْجَر، وقالوا: نَحْنُ عبيدك، ولا نخرج عَنْ طاعتك، فقد علِمنا أنّك لم تُرد قتالنا، وإنّما حُملت عَلَيْهِ، فأنت السّلطان، ونحن العبيد، فمضى عَلَى ذَلكَ شهران أو ثلاثة، ودخلوا معه إلى مرْو، وهي كرسيّ المُلك، فطلبها منه بختيار إقطاعًا، فقال: هذه دار المُلك، ولا ينبغي أن تكون إقطاعًا لأحد، فصفى له واحدة، فلمّا رَأَى ذَلكَ، نزل عَنْ سريره، ثمّ دخل خانكاه مرْو، وتاب من الملك، واستولى الغُزّ عَلَى البلاد، وظهر من جورهم ما لم يُسمع بمثله، وولّوا عَلَى نَيْسابور واليًا، فعلّق في السّوق ثلاث غرائر، وقال: أريد ملء هذه ذَهَبًا، فثار عَلَيْهِ العامَّة فقتلوه، وقَتلوا من معه، فركبت الغُزّ، ودخلوا بلد نَيْسابور، ونهبوها، وقتلوا الكبار والصّغار، وأحرقوها، وقتلوا القُضاة والعلماء في البلاد كلّها، ويتعذَّر وصْفُ ما جرى منهم عَلَى تِلْكَ البلاد، ولم يسلم منهم شيء سوى هَراة ودهسان، فامتنعت بحصانتها.

وساق بعضُهم قصَّة الغُزّ وفيها طُول، قَالَ: وفارق السّلطان سَنْجَر جميعُ أمراء خُراسان، ووزيرهُ طاهرُ ابن فخر المُلك ابن نظام المُلك، ولم يبق عنده -[768]- غيرُ نَفَر يسيرٍ من خواصّه، فلمّا وصلت الأمراء إلى نَيْسابور، أحضروا سليمان شاه بْن محمد بن ملكشاه، فدخل نيسابور في جُمادَى الآخرة من سنة ثمانٍ وأربعين، وخطبوا لَهُ بالسَّلطنة، وساروا فوَاقعوا الغُزّ، وقتلوا منهم مقتلة، فتجمّعت الغُزّ للمصافّ، فلمّا التقى الْجَمْعان انهزم الخُراسانيّون يقصدون نَيْسابور، وتبِعَتْهم الغُزّ، ودخلوا طُوس، فاستباحوها قتْلًا وسبْيًا، وقتلوا إمامها محمد المارشكيّ، ونقيب العلويّين عليًّا المُوسَويّ، وخطيبها إسماعيل بْن عبد المحسّن، وشيخ الشيوخ محمد بْن محمد، ووصلوا إلى نَيْسابور سنة تسع وأربعين في شوّال، فلم يجدوا دونها مانعًا، فنهبوها نهبًا ذريعا، وقتلوا أهلها، حتّى أنّه أُحصي في محلّتين خمسة عشر ألف قتيل، وكانوا يطلبون من الرجل المالَ، فإذا أعطاهم المال قتلوه، وقتلوا الفقيه محمد بْن يحيى الشّافعيّ، ورثاه جماعة من العلماء، وممّن قُتل الشّيخ عبد الرحمن بْن عبد الصّمد الأكّاف الزّاهد، وأحمد بْن الحسن، الكاتب سِبط القُشَيري، وأبو البركات ابن الفُراوي، والفقيه الصّبّاغ أحد المتكلّمين، وأحمد بْن محمد بْن حامد، وعبد الوهّاب المُولْقاباذيّ، والقاضي صاعد بْن عبد الملك بْن صاعد، والحسين بْن عبد الحميد الرّازيّ، وخلْق، وأحرقوا ما بها من خزائن الكُتُب، فلم يسْلَم إلّا بعضُها، وفعلوا ما لا تفعله الكُفّار، وانحلّ أمر السّلطان بالكُلّية، فاجتمع الأمراء، وراسلوا محمود بْن محمد ابن أخت السّلطان سَنْجَر، وخطبوا لَهُ بخُراسان، وأحضروه وملّكوه، وانقادوا لَهُ في شوّال سنة تسعٍ، وساروا معه إلى الغُزّ، وهم يحاصرون هَراة، فَجَرت بينهم حروب في أكثرها الظّفَر للغُزّ، وكان لسَنْجَر مملوك أي أبَه، ولَقَبُه المؤيَّد، استولى عَلَى نَيْسابور، وطوس، ونَسا، وأبيوَرد، وأزاح الغُزّ، وقتل منهم خلْقًا، وأحسن السّيرة، وعظُم شأنُه، وكُثر جمعه، والتزم بحمل مالٍ إلى الخاقان محمود بن محمد ابن أخت سنجر.

قَالَ ابن الأثير: وفيها أخذت الفرنج عسقلان، وكانت للظّافر بالله، وكان الفرنج كلّ سنةٍ يقصدونها ويحصرونها، وكان المصريّون يرسلون إليها الأسلحة والذّخائر والأموال، فلمّا قُتل ابن السّلار في هذا العام اغتنم الفرنج اشتغالَ المصريّين، ونازلوها، وجدّوا في حصارها، فخرج المسلمون وقاتلوهم وطردوهم، فأيسوا مِن أخْذها، وعزموا عَلَى الرحيل عَنْهَا، فأتاهم الخبر بأنّ أهل البلد قد اختلفوا، وذلك لأنّهم لمّا قهروا الفرنج داخَلَهُم العجب، وادعى كلّ طائفة أنّ النُّصْرة عَلَى يده، ووقع بينهم خصامٌ عَلَى ذَلكَ، -[769]- حتّى قُتل بينهم رَجُل، فعظُمت الفتنة، وتفاقم الشرّ، وتحاربوا، فقُتل بينهم جماعة، وزحفت الفرنج في الحال، فلم يكن عَلَى السّور من يمنعهم، فملكوا البلد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها بعث المقتفي عسكرًا يحاصرون تكريت، فاختلفوا وخامر ترشك المقتفويّ، واتّفق مَعَ متولّي تِكْريت، وسلكوا درْب خُراسان، ونهبوا وعاثوا، فخرج الخليفة لدفْعهم، فهربوا، فسار إلى تِكْريت، وشاهد القلعة ورجع، ثمّ برز السُرادق للانحدار إلى واسط لدفع ملكشاه عنها، فانهزم إلى خُوزسْتان، فنزل الخليفة بظاهر واسط أيامًا، ورجع إلى بغداد.

وسلِم يوم دخوله الوزير ابن هُبيرة من الغَرَق، انفلقت السّفينة الّتي كَانَ فيها، وغاصوا في الماء، فأعطى للّذي استنقذه ثيابه، ووقّع له بذهب كثير.

وفيها قتلة العادل علي بن السلار بمصر.

وفيها حاصر الملك غياث الدّين الغُوريّ مدينة هَراة، وتسلّمها بالأمان، وكانت للسلطان سنجر.

وفيها سار شهاب الدّين الغُوريّ أخو غياث الدّين، فافتتح مدينةً من الهند، فتحزَّبت عَلَيْهِ ملوك الهند، وجاؤوا في جيشٍ عرمرم، فالتقوا، فانكسر المسلمون، وجاءت شهابَ الدّين ضربةٌ في يده اليُسرى بطُلت منها، وجاءته ضربةٌ أخرى عَلَى رأسه فسقط، وحَجَزَ اللّيل بين الفريقين، والتُمس شهاب الدّين بين القتلى، فحمله أصحابه ونجوا بِهِ، فغضب عَلَى أُمرائه لكونهم انهزموا، وملأ لكلّ واحدٍ منهم مِخلاة شعير، وحلف لئن لم يأكلوه ليضربنّ أعناقهم، فأكلوه بعد الجهد، ثم نجده أخوه بجيش ثقل، فالتقى الهند ونُصر عليهم.

قَالَ ابن الأثير: عاد الهنود، وسارت ملكتهم في عددٍ يضيق عَنْهُ الفضاء، فراسلها شهاب الدّين الغوريّ بأنّه يتزوّجها، فأبت، فبعث يخادعها، وحفظ الهنود المخاضات، فأتى هنديّ إلى شهاب الدّين، فذكر أنّه يعرف مخاضةً، فجهَّز جيشًا عليهم حسين بن خرميك الغوريّ الّذي صار صاحب هَرَاة بعد، وكان شجاعًا مذكورًا، فسَاروا مَعَ الهنديّ، وكبسوا الهنود، ووضعوا فيهم السّيف، واشتغل الموكَّلون بحفْظ المخاضات، فعبر شهاب الدّين في -[770]- العسكر، وأكثروا القتل في الهنود، ولم ينج منهم إلّا من عجز المسلمون عَنْهُ، وقُتلت ملكتهم، وتمكّن شهاب الدّين من بلاد الهند، والتزموا لَهُ بحمل الأموال وصالحوه، وأقطع مملوكه قُطْب الدّين أَيْبَك مدينة دهلي، وهي كرسيّ مملكة الهند، وجهّز جيشًا، فافتتحوا مواضع ما وصل إليها مسلم قبله، حتى قاربوا جهة الصين.

وفي صفر توجّه صاحب دمشق مُجير الدّين، ومعه مؤيَّد الدين الوزير، فنازل بصرى لمخالفته له ولجوره عَلَى أهل النّاحية، وسلّم إِلَيْهِ مجاهد الدّين مفاتيح صَرْخَد، فأعطاه جملةً، ثمّ صالحه سرخَاك نائب بُصرى.

وجاءت الأخبار بأنّ نور الدّين يجمع الجيوش للغزو، وليكشف عَنْ أهل عسقلان، فإنّ الفرنج نزلوا عليها في جمْعٍ عظيم، فتوجّه مُجير الدّين صاحب دمشق إلى خدمة نور الدّين، واجتمع بِهِ في أمر الجهاد، وساروا إلى بانياس، فبلغهم أخُذُ عسقلان وتخاذُل أهلها واختلافهم.

ومرّ من شرح حال الرئيس وتمكَنه من وزارة دمشق، فعرض الآن بينه وبين أخويه عزّ الدّولة وزين الدولة مشاحنات وشرّ أفضت إلى اجتماعهما بمجير الدين صاحب دمشق، فأنفذ يستدعي الرئيس للإصلاح بينهم، فامتنع، فآلت الحال إلى أن تمكّن زين الدّولة منه بإعانة مُجير الدّين عَلَيْهِ، فتقرّر بينهما إخراج الرئيس من دمشق، وجماعته إلى قلعة صَرْخد مَعَ مجاهد الدّين بُزان، وتقلّد زين الدّولة الوزارة، فلم يلبث إلّا أشهرًا، فظلم فيها وعسف، إلى أن ضرب عنقَه مجيرُ الدّين، وردّ أمرَ الرياسة والنّظر في البلد إلى الرئيس رضيّ الدّين أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي، فاستبشر الناس قاطبةً.

وكان الغلاء بدمشق شديدا، بلغت الغرارة خمسة وعشرين دينارًا، ومات الفقراء عَلَى الطُّرُق، فعزم نور الدّين عَلَى منازلتها، وطمع لهذه الحال في تملّكها.

وأمّا رضِيّ الدّين التّميميّ، فإنّه طُلب إلى القلعة، وشُرّف بالخِلع المكملة، والمركوب بالسّخت، والسّيف المحلّى، والتَّرس، وركب معه الخواصّ إلى داره، وكُتب لَهُ التّقليد، ولُقِّب بالرئيس الأجل، وجيه الدولة، شرف الرؤساء.

ونفذ مجير الدّين إلى بَعْلَبَكّ، فاعتقل وقيَّد متولّيها عطاء الخادم، وكان جبّارًا، ظالمًا، غشومًا، فسُرَّت بمصرعه النفوس، ونُهبت حواصله، ثم ضُربت عنقه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015