-سنة خمس عشرة وخمسمائة

فيها بلغ السلطان محمودا وفاةُ جدّته، فردّ مِن الصَّيد، وعمل عزاءها ببغداد. وتكلّم أبو سَعْد إسماعيل بْن أحمد، وأبو الفتوح أحمد الغزالي الطوسيان.

وفيها استدعي علي بن طراد النقيب بحاجب مِن الدّيوان، وقرأ عَليْهِ الوزير توقيعًا بأنْ قد استُغْني عَنْ خدمتك. فمضى ولزِم بيته، وكانت بنته متّصلة بالأمير أبي عَبْد الله ابن المستظهر، وهو المقتفي.

وفي ربيع الأوّل انحدر أبو طَالِب عليّ بْن أحمد السميرميّ وزير السّلطان متفرّجًا، فلمّا حاذى باب الأزج عبر إليه عليّ بْن طِراد وحدَّثه، فوعده، ثمّ تكلم في حقه، فأعيد إلى النقابة.

وفيه انقض كوكب صارت مِن ضوئه أعمدة عند انقضاضه، وسمع عند ذلك صوت هدة كالزلزلة.

وفيه خُلِع عَلَى القاضي أبي سَعْد الهَرَويّ خِلْعةُ القضاء، قلّده السّلطان محمود القضاء بجميع الممالك سوى العراق مُرَاعاةً لقاضي القُضاة أبي القاسم الزَّيْنَبيّ، وركب إلى داره ومعه كافّة الأمراء.

وفي جُمَادَى الآخرة احترقت دار المملكة الّتي استجدّها بهروز الخادم، وكان بها السّلطان نائمًا عَلَى سطح، فنزل وهرب في سفينة، وذهب من الفرش والآلات والجواهر ما تزيد قيمته عَلَى ألف ألف دينار، وغسّل الغسّالون التّراب، وظفروا بالذّهب والحُليّ قد تسبَّك.

ولم يَسْلَم مِن الدّار ولا خَشَبَة، وأمر السّلطان ببناء دار له عَلَى المُسَنّاة المستحدثة، وأعرض عَنِ الدار الّتي احترقت، وقال: إنّ أَبِي لم يُمَتّع بها ولا امتدّ بقاؤه بعد انتقاله إليها، وقد ذهبت أموالنا فيها.

واحترق بإصبهان جامعٌ كبير أنفِقَت عَليْهِ أموال، يقال: إنه غرم على أخشابه ألف ألف دينار.

وفي شعبان عقد مجلس، وحلف السلطان للخليفة عَلَى المناصحة والطّاعة، ثمّ نفَّذ هديةً إلى الخليفة، وجلس الخليفة في الدّار الشّاطئيّة، وهي -[157]- مِن الدُّور البديعة الّتي أنشأها المقتدي، وتمَّمها المسترشد، فجلس في قُبَّته، وعليه ثوب مُصْمت وعِمامة رصافية، وعلى كتفه البُرْدة، وبين يديه القضيب.

ورتَّب وزيره ابن صَدَقة الأمور، وأتى وزير السّلطان أبو طَالِب السُّمَيْرميّ والمستوفي وخواصّ دولتهم. ثم وقف ابن صدقة عن يسار السُّدَّة، وأبو طَالِب السُّمَيْرميّ عَنْ يمينها، وأقبل السلطان محمود يده في يد أخيه مسعود.

فلمّا قرُب استقبله الوزيران والكبار، وحجبوه إلى بين يدي الخليفة. فلمّا قاربوا كُشِفت السّتارة لهما، ووقف السّلطان في الموضع الَّذِي كَانَ وزيره واقفًا فيه، وأخوه إلى جانبه، فخدما ثلاث مرات ووقفا، والوزير ابن صَدَقة يذكر لَهُ عَنِ الخليفة أنسه به وبقربه وحُسْن اعتقاده فيه.

ثمّ أمر الخليفة بإفاضة الخِلَع عَليْهِ، فحمُل إلى مجلسٍ لذلك. ثمّ وقف الوزيران بين يدي الخليفة يحضران الأمراء أميرًا أميرًا، فيخدم وتعرف خدمته، فيقبّل الأرض وينصرف.

ثمّ عاد السّلطان وأخوه، فمثّلًا بين يدي الخليفة، وعلى محمود الخلع السبع والطوق، والسّواران، والتّاج، فخدما. وأمر الخليفة بكُرْسيّ، فجلس عليه السلطان، ووعظه الخليفة وتلا عَليْهِ قوله تعالى: " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره ". وأمره بالإحسان إلى الرّعيّة.

ثمّ أذن للوزير أَبِي طَالِب في تفسير ذَلِكَ عَليْهِ، ففسّره، وأعاد عَنْهُ أنّه قَالَ: وفّقني الله لقبول أوامر مولانا أمير المؤمنين، وارتسامها بالسعادات، وسلم الخليفة إلى الوزيرين سيفين وأمرهما أن يقلدا بهما السلطان. فلما فعلا قال له: اقمع بهما الكُفّار والمُلْحِدين! وعَقَد لَهُ بيده لواءين حُمِلا معه، وخرج، فقُدَّم لَهُ في صحن الدّار فَرَسٌ مِن مراكب الخليفة، بمركبٍ جديد صينيّ، وقيد بين يديه أربعةُ أفراس بمراكب الذَّهَب.

وفيها كان ببغداد أمطار عظيمة متوالية، ثمّ وقع ثلْجٌ عظيم، وكبرُ حتى كَانَ عُلُوَّ ذراع.

قال ابن الجوزيّ: وقد ذكرنا في كتابنا هذا، يعني المنتظم أنّ الثّلج وقع في سنين كثيرة في أيام الرّشيد، وفي أيّام المقتدر، وفي أيام المطيع، والطائع، والقادر، والقائم. وما سمع بمثل هذا الواقع في هذه السنة، فإنه بقي -[158]- خمسة عشر يومًا ما ذاب، وهلك شجر الأترج، والليمو، ولم يُعْهَد سقوط ثلجٍ بالبصرة إلّا في هذه السنة.

ودخل دبيس الحِلّة، فأخرج أهلها، فازدحموا عَلَى المعابر، فغرق منهم نحو الخمسمائة. ودخل أخوه النّيل، فأخرج شِحْنة السّلطان منها، وأخذ ما فيها مِن الميرة. فحثّ الخليفةُ السّلطان عَلَى دُبَيْس، فندب السّلطان الأمراء لقصد دُبَيْس، فلمّا قصدوه أحرق دار أَبِيهِ، وذهب إلى النّيل. فأتى العسكر الحِلّة، فوجدوها فارغة، فقصدوه وهو بنواحي النيل، ثم صالحوه، وحلف للسلطان.

وفي صفر أقطع السلطان لآقسنقر البُرْسُقيّ المَوْصِل وأعمالها، وبعثه إليها، وأمره بجهاد الفرنج، فسار إليها في عسكر كبير، واستقرّ بها.

وكان الأمير إيلغازي بْن ارْتُق في هذه المدّة حاكمًا عَلَى ماردين وحلب، وابنه سليمان بحلب، فعزل سليمان منها لكونه أراد أن يعصي على أبيه.

وفيها أُعيدت المُكُوس، وأُلْزمت الباعة أن يدفعوا إلى السّلطان ثُلُثي ما يأخذونه مِن الدّلالة، وفُرِض عَلَى كلّ ثوبٍ مِن السّقْلاطونيّ ثمانية قراريط، ثمّ قِيلَ للباعة: زِنوا خمسة آلاف شكرًا للسلطان، فقد أمر بإزالة المكس.

ومرض وزير السّلطان، فعاده السّلطان وهنّأه بالعافية، فاحتمل واحتفل وعمل، أعني الوزير، وليمة عظيمة إلى الغاية، فيها الملاهي والأغاني، نابه عليها خمسون ألف دينار.

وفيها تُوُفّي عليّ بْن يلدرك التُّرْكيّ، وكان شاعرًا مترسّلًا ظريفًا، تُوُفّي في صَفَر ببغداد. قال أبو الفرج ابن الْجَوْزيّ: نقلت مِن خطّ ابن عقيل، قَالَ: حدَّثني الرئيس أبو الثّناء عليّ بْن يلدرك، وهو ممن خَبرته بالصّدْق، أنّه كَانَ في سوق نهر المُعَلَّى، وبين يديه رَجُل عَلَى رأسه قفص زجاج، وهو مضطّرب المشْي، يظهر منه عدم المعرفة بالحَمْل، فما زلت أترقَّب سقوطه.

قَالَ: فسقط، فتكسّر الزّجّاج، فبُهت الرجل، ثمّ أخذ عند الإفاقة مِن البكاء يَقُولُ: هذا والله جميعُ بضاعتي، والله لقد أصابني بمكّة مصيبة عظيمة تُوُفّي على هذه، ما دخل قلبي مثل هذه! واجتمع حوله جماعة يَرْثُون لَهُ، ويبكون عَليْهِ، وقالوا: -[159]- ما الذي أصابك بمكة؟ فقال: دخلت قُبَّة زمزم، وتجرَّدت للاغتسال، وكان في يدي دملج فيه ثمانون مثقالًا، فخلعته واغتسلت، وأُنْسيتُه، وخرجت. فقال رَجُل مِن الجماعة: هذا دملجك خُذْه، لَهُ معي سنين! فدُهش النّاس مِن إسراع جبر مصيبته.

وفيها نازل المُلْك عليّ بْن يوسف بْن تاشفين البربري مدينة قرطبة وضايقها، وآذى النّاس، فتذلَّلوا لَهُ، وبذلوا لَهُ أموالًا عظيمة، حتّى ترحّل عَنْهُم. وكانوا قد خرجوا عَليْهِ لكونه بعث عَلَى نيابه قُرْطُبَة قائدًا ظالمًا، فأراد عبدٌ مِن عُبَيْده أن يُكره امرَأَة ويضطهدها علانية، فضربه النّاس، فآل الأمر إلى قتال، حتّى تسوّروا عَلَى القائد وأخرجوه، بعد أن كادوا يقتلونه. وجَرَت فتنة عظيمة، وكان البربر في هذه السّنين غالبين عَلَى الأندلس، وفيهم قِلّة دِين.

وقبل سفر ابن تاشّفين وقف لَهُ بجامع مُرّاكُش محمد بْن تُومَرْت الفقيه، وكلّمه بكلام فجّ، فقال: أيّها الأمير، إنّك حِلْت بين بصرك وبين الحق بظلمة التقليد، فقلدت قومًا أكلوا الدّنيا بالآخرة، وأنا أُناظرهم بين يديك، وأصقل مرآتك، حتّى تأمر بالاحتياط عَليْهِ. وأحضر لَهُ جماعة مِن أهل الأُصول والفروع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015