كَانَ سيف الدّولة صَدَقة قد صار ملك العرب في زمانه، وبنى الحلة ومصرها، وقبل ذلك كان صاحب عمود وبيوت شعر، فعظُم شأنُه، وارتفع قدْره، وصار ملجأ لمن يستجير به، وكان معينًا للسلطان محمد على أخيه في حروبه، وناصرًا له، فزاد إقطاعه مدينة واسط، وأذِن لَهُ في أخذ البصرة، ثم أفسد ما بينهما العميد أبو جعفر محمد بْن الحسن البلْخيّ مَعَ ما كَانَ يفعله صَدَقة مِن إجارة مِن يلتجئ إِلَيْهِ مِن أعداء السّلطان محمد، وشغَّب العميدُ السّلطان عَليْهِ، ثمّ زاد عَليْهِ بأنْ صبغه بأنّه مِن الباطنية، ولم يكن كذلك؛ بل كان شيعيًا، وسخط السلطان على أبي دلف سرخاب صاحب ساوة، فهرب منه، فأجاره صَدَقة، فطلبه السّلطان منه، فامتنع، إلى أمور أُخر، فتوجّه السّلطان إلى العراق. فاستشار صَدَقة أصحابه، فأشار عليه ابنه دُبَيْس بأن ينفّذه إلى السّلطان بتقادُم وتُحَف وخيل، وأشار سَعِيد بْن حُمَيْد صاحب جيش صَدَقة بالحرب، فأصغى إليه، وجمع العساكر، وبذل الأموال، فاجتمع لَهُ عشرون ألف فارس، وثلاثون ألف راجل، فأرسل إليه المستظهر بالله ينهاه عَنِ الخروج، ويعده بأن يُصْلح أمره، وأرسل السلطان يطمئنه ويطيب قلبه، ويأمره بالتجهيز معه لقصد غزو الفرنج، فأجاب بأن السلطان قد ملؤوا قلبه علي، وقال صاحب جيشه: لم يبق لنا في صلح السلطان مطمع.
ودخل السلطان بغداد في ربيع الآخر جريدة لَا يبلغ عسكره ألفَيْ فارس، فلما تيقن ببغداد منابذة صَدَقة لَهُ، بعث شِحْنة بغداد سُنْقُر البُرْسُقيّ في عسكر، فنزل عَلَى صَرْصَرْ، وبعث بريدًا يستحث عساكره فأسرعوا إليه، ثم نشبت -[8]- الحرب بين الفريقين شيئًا فشيئًا، وتراسلوا في الصُّلح غير مُرَّة، فلم يتّفق، وجرت لهم أمور طويلة، ثمّ التقى صَدَقة والسلطان في تاسع عشر رجب، فكانت الأتراك ترمي الرَّشْقَة عشرة آلاف سهْم، فتقع في خيل العرب وأبدانهم، وبقي أصحاب صَدَقة كلمّا حملوا منعهم نهرٌ بين الفريقين مِن الوصول، ومن عَبَر إليهم لم يرجع، وتقاعدت عُبادة وخَفَاجة شفقةً عَلَى خيلها، وبقي صَدَقة يصيح: يا آل خُزَيْمَة، يا آل ناشرة، ووعد الأكراد بكلّ جميل لَمَّا رَأَى من شجاعتهم، وَكَانَ راكبا على فرسه المهلوب، ولم يكن لأحدٍ مثله، فجُرح الفَرَس ثلاث جراحات، وكان لَهُ فرس آخر قد ركبه حاجبه أبو نصر، فلمّا رَأَى التُّرْكَ قد غشوا صَدَقة هرب عَليْهِ، فناداه صَدَقة، فلم يردّ عَليْهِ، وحمل صَدَقة عَلَى الأتراك وضرب غلامًا منهم في وجهة بالسّيف، وجعل يفتخر ويقول: أَنَا ملك العرب، أَنَا صَدَقة، فجاءه سهْمٌ في ظهره، وأدركه بزغش مملوك أشلّ، فجذبه عَنْ فَرَسه فوقع، فقال: يا غلام، أرفق، فضربه بالسّيف؛ قتله، وحمل رأسه إلى السّلطان، وقُتل مِن أصحابه أكثر مِن ثلاثة آلاف فارس، وأُسِر ابنه دُبَيْس، وصاحب جيشه سعيد بن حميد.
وكان صدقة كثير المحاسن في الجملة، محبَّبًا إلى الرعيّة، لم يتزوَّج عَلَى امرأته، ولا تَسَرَّى عليها، وكان عنده ألوف مجلَّدات من الكتب النفيسة، وكان متواضعًا محتملًا، كثير العطاء.
وأمّا طرابُلُس، فلمّا طال حصارها، وقلَّت أقواتُها، وعظمت بليتها ولا قوّة إلّا بالله، منَّ الله عليهم سنة خمسمائة بميرة جاءتهم في البحر، فتقوَّوْا شيئًا، واستناب فخر المُلْك أبو علي بن عمار على البلد ابن عمه، وسلف المقاتلة رزق ستة أشهر، وسار منها إلى دمشق؛ ليمضي إلى بَغْدَاد فأظهر ابن عمه العصيان، ونادى بشعار المصريّين، فبعث فخر الملك إلى أصحابه، يأمرهم بالقبض عَليْهِ، ففعلوا بِهِ ذَلِكَ، واستصحب فخر الملك معه تحفًا ونفائس وجواهر وخيلا عربية، فأحترمه أمير دمشق وأكرمه، ثمّ سار إلى بغداد، فدخلها في رمضان قاصدًا باب السّلطان، مستنفرًا عَلَى الفرنج، فبالغ السّلطان محمد في احترامه، وكان يوم دخوله مشهودًا، ورتَّب لَهُ الخليفة الرّواتب العظيمة، ثمّ قِدم للسّلطان التّقادم، وحادثه السّلطان في أمر قتال الفرنج، فطلب النّجدة، وضمن الإقامة بكفاية العساكر، فأجابه السّلطان. -[9]-
وقدّم للخليفة أيضًا، وحضر دار الخلافة وخُلع عَليْهِ، وجرّد السّلطان معه عسكرًا لم يُغْنِ شيئًا، ثمّ وصل إلى دمشق في المحرَّم سنة اثنتين، وتوجه بعسكر دمشق إلى جبلة، فدخلها وأطاعه أهلها.
وأمّا أهل طرابُلُس فراسلوا المصريّين يلتمسون واليا وميرَة في البحر، فجاءهم شرف الدّولة ومعه الميرة الكثيرة، فلمّا دخلها قبض عَلَى جماعة من أقارب ابن عمار، وأخذ نعمتهم وذخائرهم، وحمل الجميع إلى مصر في البحر.
وفي شَعْبان أطلق السّلطان الضّرائب والمُكُوس ببغداد، وكثُر الدّعاء لَهُ، وشرط عَلَى وزير الخليفة العدل وحُسْن السيرة، وأن لَا يستعمل أهل الذّمّة، وعاد إلى إصبهان بعد إقامة نحو الستة أشهر، فأحسن فيها ما شاء، وكسا في يوم أربعمائة فقير، ومضى يومًا إلى مشهد أَبِي حنيفة، فانفرد وغلّق عَليْهِ الأبواب يصلّي ويتعبَّد، وكفّ غلمانه عَنْ ظُلْم الرّعيّة، وبالغ في ذَلِكَ.
وفيها حاصر بغدوين ملك الفرنج صور، وبنى تلقاءها حصنًا، وضيّق عليهم، فبذل لَهُ متولّيها سبعة آلاف دينار، فترحل عنها. ونازل صيدًا ونصب عليها البُرج الخشب، وقاتَلَها في المراكب، وجاء أصطول ديار مصر ليكشف عَنْهَا، فقاتلهم أصطول الفرنج، وظهر المسلمون، وبلغ الفرنج مسيرُ عسكر دمشق نجدةً لأهل صيدا، فتركوها ورحلوا.
وأغار أمير دمشق طُغتِكِين عَلَى طبريّة، فخرج ملكها جرْفاس - لعنة الله - فالتقوا، فقُتل خلْق مِن عسكره وأُسِر هُوَ، وفرح المسلمون.