فيها تُوُفّي أمير المغرب والأندلس يوسف بْن تاشَفِين، وولي المُلْك بعده ابنه عليُّ بْنُ يوسف، وكان قد بعث فيما تقدَّم تقدمةً جليلة، ورسولًا إلى المستظهر باللَّه، يلتمس أنّ يولى السلطة، وأن يُقَلَّدَ ما بيده من البلاد، فكتب له تقليداً، ولقب أمير المسلمين، وبعثت لَهُ خِلَع السّلطنة، ففرح بذلك، وسُرَّ فُقهاء المغرب بذلك، وهو الّذي أنشأ مدينة مَرّاكُش.
وفي يوم عاشوراء قُتِلَ فَخْرُ المُلْك عليّ ابن نظام المُلْك، وثب عَلَيْهِ واحدٌ من الإسماعيلية في زيّ متظلّم، فناوله قَصَّةً، ثمّ ضربه بسكِّينٍ فقتله، وعاش ستًّا وستّين سنة.
ونقل ابن الأثير أَنَّهُ كَانَ أكبر أولاد النّظّام، وأنّه وَزَرَ للسّلطان بَركيَارُوق، ثمّ انفصل عَنْهُ، وقصد نَيْسابور، فأقام عند السّلطان سَنْجَر، ووَزَر لَهُ، فأصبح يوم عاشوراء صائمًا، فقال لأصحابه: رأيت اللّيلة الحُسين بْن عليّ رضي الله عَنْهُمَا وهو يَقُولُ: عجّل إلينا، ولْيكُنْ إفطارُك عندنا، وقد اشتغل فكري، ولا محيد عَنْ قضاء اللَّه وقدره، فقالوا: يكفيك اللَّه، والصّواب أنْ لا تخرج اليومَ واللّيلة، فأقام يومَه كلّه يُصلّي ويقرأ، وتصدّق بشيءٍ كثير، ثمّ خرج وقت العصر يريد دار النساء، فسمع صوت صياح مُتَظَلِّم، شديد الحُرْقة، وهو يَقُولُ: ذهب المسلمون، فلم يبق من يكشف كُرْبةً، ولا يأخذ بيد ملْهوف، فطلبه رحمةً لَهُ، وإذا بيده قصة، وذكر الحكاية.
وفيها قبض السلطان محمد علي وزيره سعد الملك أبي المحاسن، وصلبه على باب أصبهان، وصلب معه أربعة من أصحابه نسبوا إلى أنّهم باطنيّة، وأمّا الوزير فَاتهم بالخيانة، وكانت وزارته سنتين وتسعة أشهر، وكان عَلَى ديوان الاستيفاء في أيّام وزارة مؤيّد المُلْك ابن نظام الملك، ثم خدم السلطان محمدا وقام معه، فاستوزره، ثم نكبه وصلبه. ثمّ استوزر قِوام المُلْك أبا ناصر أحمد ابن نظام الملك.
وفيها انتزع السّلطان محمد قلعة إصبهان من الباطنيّة، وقتل صاحبها -[696]- أحمد بْن عَبْد المُلْك بْن غطّاس، وكانت الباطنيّة بأصبهان قد ألبسوه تاجًا، وجمعوا لَهُ الأموال، وقدموه؛ لأن أباه عَبْد المُلْك كَانَ من علمائهم لَهُ أدب وبلاغة، وحُسْن خَطّ، وسُرعة جواب، مَعَ عِفّةٍ ونزاهة، وطلع ابنه أحمد هذا جاهلًا، قِيلَ لابن الصباح صاحب الألموت: لماذا تعظم ابن غطّاس عَلَى جَهْله؟ قَالَ: لمكان أَبِيهِ، فإنه كَانَ أستاذي.
وكان ابن غطاس قد استفحل أمرُه، واشتد بأسُه، وقطعت أصحابه الطرق، وقتلوا الناس.
قَالَ ابن الأثير: قتلوا خلقًا كثيرًا لا يمكن إحصاؤهم، وجعلوا لهم عَلَى القُرى والأملاك ضرائب يأخذونها، ليكفوا أَذَاهم عَنْهَا، فتعذَّر بذلك انتفاعُ النّاس بأملاكهم، والدّولة بالضّياع، وتمشّى لهم الأمر بالخُلْف الواقع، فلمّا صفا الوقت لمحمد لم يكن له همّه سِواهم، فبدأ بقلعة إصبهان، لتسلُّطها عَلَى سرير مُلْكه، فحاصرهم بنفسه، وصعد الجبل الّذي يقابل القلعة، ونصب لَهُ التَّخْت، واجتمع من إصبهان وأعمالها لقتالهم الأُممُ العظيمة، فأحاطوا بجبل القلعة، ودَوْرُهُ أربعةُ فَرَاسخ، إلى أنّ تعذّر عليهم القُوت، وذلّوا، فكتبوا فُتْيا: ما يَقُولُ السادة الفُقَهاء في قوم يؤمنون باللَّه وكُتُبه ورُسُلِه واليوم الآخر، وإنّما يخالفون في الْإِمَام، هَلْ يجوز للسّلطان مهادنتهم ومُوادعتهم، وأن يقبل طاعتهم؟ فأجاب الفُقهاء بالجواز، وتوقّف بعض الفُقَهاء، فجُمعوا للمناظرة، فقال أبو الحَسَن عليّ بْن عَبْد الرحمن السنجاري الشافعي: يجب قتالهم، ولا ينفعهم التلفظ بالشّهادتين، فإنّهم يقال لهم: أَخْبِرُونا عَنْ إمامكم إذا أباح لكم ما حظر الشرع أيقبلون منهم؟ فإنّهم يقولون: نعم، وحينئذ تُباح دماؤهم بالإجماع، وطالت المناظرة في ذَلِكَ.
ثمّ بعثوا السلطان يطلبون من يناظرهم، وعيّنوا أشخاصًا، منهم شيخ الحنفيّة القاضي أبو العلاء صاعد بْن يحيى قاضي إصبهان، فصعدوا إليهم، وناظروهم، وعادوا كما صعدوا، وإنّما كَانَ قصدهم التَّعَلُّل، فلجّ السّلطان حينئذٍ في حصْرهم، فأذعنوا بتسليم القلعة على أن يعطوا قلعة خالنجان، وهي عَلَى مرحلةٍ من إصبهان، وقالوا: إنا نخاف عَلَى أرواحنا من العامّة، ولا بُدّ من -[697]- مكانٍ نأوي إِلَيْهِ، فأُشير عَلَى السّلطان بإجابتهم، فسألوا أن يؤخرهم إلى قرب النيروز، ثم يتحولون، فأجابهم، وطلبوا منه مؤونة يوما بيوم فأجابهم إلى ذلك، هذا، وقصدهم المطاولة وانتظار فتن تتفق، أو حادث يتجدّد، ورتّب لهم الوزير سعْد المُلْك راتبًا كلّ يوم، ثمّ بعثوا مَن وثب على أمير كان يجد في قتالهم، فجُرِح وسَلِم، فحينئذٍ خرّب السّلطان قلعة خالنجان، وجدّد الحصار عليهم، فطلبوا أنّ ينزل بعضهم، ويرسل السّلطان معهم من يحميهم إلى قلعة الناظر بأَرَّجَان، وهي لهم، وإلى قلعة طَبَس، وأن يقيم باقيهم في ضرس القلعة، إلى أنّ يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم، فأجابهم إلى ذَلِكَ، وذهبوا، ورجع من أخبر الباقين بوصول أولئك إلى القلعتين، فلم يسلم ابن غطاس السن الذي احتموا فيه، ورأى السّلطان منه الغدر والرجوع عما تقرر، فزحف الناس عليه عامة، في ثاني ذي القعدة، وكان قد قل عنده من يمنع أو يقاتل، وظهر منه بأسٌ شديد، وشجاعة عظيمة، وكان قد استأمن إلى السّلطان إنسانٌ من أعيانهم فقال: أَنَا أدلكم عَلَى عورة لهم، فأتى بهم إلى جانب للسن لا يرام فقال: اصعدوا من هاهنا، فقيل: إنّهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال، فقال: إنّ الّذي ترون أسلحة وكُزاغنْدات قد جعلوها كهيئة الرجال، وذلك لقلتهم، وكان جُمَيْع من بقي ثمانين رجلًا، فصعد النّاس من هناك، وملكوا الموضع، وقتلوا أكثر الباطنية، واختلط جماعة منهم مع من دخل فسلموا، وأُسِر ابن غطاس، فشهر بأصبهان، وسُلِخ، فتجلّد حتّى مات، وَحُشِيَ جِلْدُهُ تبْنًا، وقتل ولدُه، وبُعث برأسيهما إلى بغداد، وألْقَتْ زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت، وخرب محمد القلعة. وكان والده السّلطان جلال الدولة ملك شاه هو الذي بناها على رأس جبل، يقال: إنّه غرم عَلَى بنائها ألفي ألف دينار ومائتي ألف دينار، فاحتال عليها ابن غطاس حتى ملكها، وأقام بها اثنتي عشرة سنة.
وفي صَفَر عُزِل الوزير أبو القاسم عليّ بْن جهير، وكان قد وزر للخليفة ثلاثة أعوام وخمسة أشهر، فهرب إلى دار سيف الدولة صدقة بْن مُزْيَد ببغداد ملتجئًا إليها، وكانت ملجأ لكلّ ملهوف، فأرسل إِلَيْهِ صدقة من أحضره إلى الحلة، وأمر الخليفة بأن تخرب داره، ثم تقررت الوزارة في أول سنة إحدى وخمسمائة لأبي المعالي هبة الله بن المطلب. -[698]-
وفيها غرق قِلِج أرسلان بْن سليمان بْن قُتُلْمش صاحب قونية، سقط في الخابور فغرق، ووجد بعد أيّام منتفخًا، والحمد لله عَلَى العافية.
وتتابعت كُتُب أتابك طُغْتِكِين وفخر المُلْك ابن عمار ملكا الشام إلى السّلطان غياث الدين محمد بْن ملكشاه، بعظيم ما حل بالشام وأهله من الفرنج لعنهم الله، ويستصرخون بِهِ، ويستنجدون بِهِ لِيُدركهم، فندب جيشًا عليهم جاولي سقاوة، وكاتب صَدَقَةَ بْن مَزْيَد، وصاحب المَوْصِل وغيرهما لينهضوا إلى حرب الكُفّار، فثقُل ذَلِكَ عَلَى المكاتبين ونكلوا عَن الجهاد، وأقبلوا عَلَى حظوظ الأنفس، فلا قوة إلّا بالله.
وكان ابن قُتُلْمش نَفَذَ بعض جيشه لإنجاد صاحب القسطنطينية عَلَى بَيْمُنْد وإفرنج الشام، فلمّا التقى الْجَمْعان استظهر الروم وكسروا الفرنج شرّ كسْرَة، أتت عَلَى أكثرهم بالقتل والأسْر، وفصل الأتراك جُنْد ابن قُتُلْمش بعد أنّ خلع عليهم طاغية الروم وأكرمهم.