-سنة تسع وتسعين وأربعمائة

فيها ظهر رجل بنواحي نهاوند فادّعى النُّبُوة، وكان يُمَخْرق بالسِّحْر والنجوم، وتبعه الخلْق، وحملوا إِلَيْهِ أموالهم، فكان لا يدّخر شيئاً، وسمى أصحابه بأسماء الصحابة كأبي بكر، وعمر. وخرج أيضا بنهاوند رجل من ولد ألب أرسلان يطلب المُلْك، فأُخذا وقُتِلا في وقتٍ واحد. -[693]-

وفيها شرع الفرنج وعمدوا إلى حصنٍ بين طَبَريّه والبثنيّة يقال لَهُ: عال، فبلغ طغتكين صاحب دمشق، فسار وكبسهم وأسر وأخذ الحصن، وعاد بالأسارى والغنائم، وزيّنت دمشق أسبوعًا، ثمّ سار إلى حصن رفنية، وصاحبه ابن أخت صنجيل، فحصره طغتكين وملكه، وقتل به خمسمائة من الفرنج.

وفيها ملكت الإسماعيليّة حصنَ فامِيَة، وقتلوا صاحبه خلف بْن مُلاعب الكِلَابيّ، وكان خَلَف قد تغلّب عَلَى حمص، وقطع الطّريق، وعمل أنْحَس ممّا تعمله الفرنج، فطرده تُتُش عَنْ حمص، فذهب إلى مصر، فما التفتوا إِلَيْهِ، فاتّفق أنّ نقيب فَامِيَة من جهة رضوان بْن تُتُش أرسل إلى المصريّين، وكان عَلَى مذهبهم، يستدعى منهم من يسلّم إِلَيْهِ الحصن، فطلب ابن مُلاعب منهم أن يكون والياً عليه لهم، فلما ملكه خلع طاعتهم، فأرسلوا من مصر يتهدّدونه بما يفعلونه بولده الّذي عندهم رهينة، فقال: لا أنزل من قلعتي، وابعثوا إلي ببعض أعضاء ابني حتّى آكُله، وبقي بفامية يقطع الطّريق، ويخيف السّبيل، وانضمّ إِلَيْهِ كثير من المفسدين.

ثم أخذت الفرنج سَرْمِين، وأهلها رافضة، فتوجّه قاضيها إلى ابن مُلاعب فأكرمه وأحبّه، ووثق بِهِ، فأعمل القاضي الحيلة، وكتب إلى أَبِي طاهر الصّائغ، أحد رؤوس الباطنيّة ومن الواصلين عند رضوان صاحب حلب، واتفق معه على الفتك بابن ملاعب، وأحس ابن ملاعب فأحضر القاضي، فجاء وفي كمه مصحف، وتنصل وخدع ابن ملاعب، فسكت عَنْهُ؛ وكتب إلى الصائغ يشير عليه بأن يحسن لرضوان إنفاذ ثلاثمائة رجلٍ من أهل سَرْمِين الذين نزحوا إلى حلب، وينفذ معهم خيلاً من خيول الفرنج، وسلاحاً من سلاحهم، ورؤوساً، من رؤوس الفرنج، فيأتون ابن مُلاعب في صورة أنّهم غُزاة، ويشكون من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارقوه، فلقيتهم طائفة من الفرنج، فنصروا على الفرنج، وهذه رؤوسهم، ويحملون جُمَيْع ما معهم إِلَيْهِ، فإذا أذِن لهم في المقام عنده يتفق معهم على إعمال الحيلة عليه.

ففعل الصائغ جميع ذلك، وجاؤوا بتلك الصورة، وقدّموا لابن مُلاعب ما معهم من خيل وغيرها، فانزلهم ابن مُلاعب في رَبَض فَامِيَة، فقام القاضي ليلةً هُوَ ومن معه بالحصن، فدلوا حبالًا، وأصعدوا أولئك من الرَّبَض، ووثبوا عَلَى أولاد ابن مُلاعب وبني عمّه فقتلوهم، وأتوا ابن مُلاعب وهو مع امرأته -[694]- فقال: من أنت؟ قَالَ: مَلَك الموت جئت لقبْض روحك، ثمّ قتله، ثم وصل الخبر إلى أَبِي طاهر الصّائغ، فسار إلى فَامِيَة، وهو لا يشكّ أنّها لَهُ، فقال القاضي: إنّ وافقتَني وأقمتَ معي، وإلّا فارجع، فآيس ورجع.

وكان عند طُغْتِكِين الأتابك ولدٌ لابن مُلاعب، فولّاه حصنًا، فقطع الطّريق، وأخذ القوافل كأبيه، فهم طغتكين بالقبض عليه، فهرب إلى الفرنج، واستدعاهم إلى فَامِيَة، وقال: ما فيها إلّا قوت شهر، فنازلوه وحاصروه، وجاع أهله، وملكته الفرنج، فقتلوا القاضي المذكور، وظفروا بالصّائغ فقتلوه، وهو الّذي أظهر مذهب الباطنيّة بالشّام، فقيل: لم يقتلوه وإنما بقي إلى سنة سبعٍ وخمسمائة، فقتله ابن بريع رئيس حلب بعد موت رضوان صاحبها.

وفيها ملك سيف الدّولة صدقة بْن مَزْيَد الأَسَديّ البصرة، وحكم عليها، وأقام بها نائبًا، وجعل معه مائة وعشرين فارسًا، فاجتمعت ربيعة والعرب في جَمْعٍ كبير، وقصدوا البصرة، فقاتلهم النائب ألتونتاش، فأسروه، ودخلوا البلد بالسّيف، فنهبوا وأحرقوا، وما أبقوا ممكناً، وانتشر أهلها في السواد، وأقامت العرب تُفْسد شهرًا، فأرسل صدقة عسكرًا، وقد فات الأمر.

وأمّا ابن عمّار فكان يخرج من طرابُلُس وينال من الفرنج، وخرّب الحصن الّذي أقامه صَنْجيل، وحرق فيه، فرجع صَنْجيل ومعه جماعة من القمامصة والفرسان، فوقف عَلَى بعض السُّقُوف المحترقة، فانخسف، فمرض صنجيل عشرة أيام ومات، لعنه الله؛ وحملت جيفةُ الملعون إلى القدس، فدفنت بِهِ، ولم يزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمسَ سِنين إلى هذا الوقت، فعدموا الأقوات، وافتقر الأغنياء، وجلا الفُقراء، وظهر من ابن عمار صبر وثبات، وشجاعة عظيمة، ورأيٌ، وحزْم، وكانت طرابُلُس من أعظم بلاد الإسلام وأكثرها تجمُّلًا وثروة، فباع أهلُها من الحُلي والآلات الفاخرة ما لا يوصف بأقلّ ثمن، ولا أحد يغيثهم، ولا من يكشف عنهم.

وامتلأ الشام من الفرنج.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015