في ربيع الآخر، وقع الصلح بين السلطانين بركياروق ومحمد؛ وكان سببه أنّ الحرب لما تطاولت بينهما وعم الفساد، وصارت الأموال منهوبة، والدّماء مسفوكة، والبلاد مخرَّبة، والسلطنة مطموعًا فيها، محكومًا عليها، وأصبح الملوك مقهورين بعد أنّ كانوا قاهرين، وكان بَركيَارُوق حاكمًا حينئذٍ عَلَى الرّيّ، والجبال، وطبرستان، وفارس، وديار بكر، والجزيرة، والحرمين، وهو منعم بالرَّيّ، وكان محمد بأذربيجان وهو حاكم عليها وعلى أرمينية، وأرّان، وأصبهان، والعراق جميعه سوى تكريت، وبعض البطائح، وأما خراسان فإن السلطان سَنْجَر كَانَ يخطب لَهُ فيها جميعها، ولأخيه محمد، -[688]- وبقي بركياروق ومحمد كفرسي رهان، فدخل العقلاء بينهم بالصلح، وكتبت بينهم أَيْمان وعُهُود ومواثيق، فيها ترجيح جانب بَركيَارُوق، وأُقيمت لَهُ الخطبة ببغداد، وتسلم إصبهان بمقتضى الصُّلْح، وأرسل الخليفة خلع السلطنة إلى بَركيَارُوق.
وفيها جاءت الفرنج في البحر، فأعانوا صَنْجيل عَلَى حصار طرابلس، وبالغوا في الحصار أيامًا، فلم يغن شيئًا، ففارقوه. ونازلوا مدينة جبيل أيامًا، وجدوا في القتال، فعجز أهلُها وتسلموها بالأمان، فغدروا بأهلها، وأخذوا أموالهم وعذبوهم. ثمّ ساروا إلى عكا نجدةً لبردوين صاحب القدس، فحاصروها برًّا وبحرًا، وأميرها زهر الدّولة نبأ الجيوشي، فزحفوا عليها مرّةً غير مرّة، إلى أن عجز نبأ عن عكا، ففارقها ونزل في البحر، وأخذتها الفرنج بالسيف، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقدم واليها إلى دمشق، ثم دخل إلى مصر، وعفا عَنْهُ أمير الجيوش الأفضل.
وفيها نازلت الفرنج حران، فسار لجهادهم سُقْمان وجَكَرْمِش في عشرة آلاف فارس، فكانت الوقعة عَلَى نهر البَلِيخ، فانهزم المسلمون أولاً، وتبعتهم الفرنج فرسخين، ثمّ عاد المسلمون عليهم فقتلوهم كيف شاؤوا، وغنموا أسلابهم، وكان فتحًا عظيمًا أذلّ نفوس الفرنج بمرة. وكان بيمند صاحب أنطاكيّة وتنكري صاحب السّاحل قد كمنا وراء جبل، فلما خرجا رأيا أصحابهم منهزمين، فتسحبا في الليل، وفطن بهم المسلمون فتبعوهم، وقتلوا وأسروا، وأَفْلَت الملكان في ستة فرسان. وأسروا قُمْص الرُّها، وحاز الغنيمة عسكرُ سُقْمان، ولم يَظْفِرْ عسكرُ جَكَرْمِش صاحب المَوْصِل بطائل.
ورحل سقمان وألبس أصحابه أسلاب الفرنج، ورفع أعلامهم، وكان يأتي الحصن فتخرج الفرنج منه، ظناً أن هؤلاء أصحابهم، فيقتلونهم، ويملك سقمان الحصن، فعل ذلك بعدة حصون.
وأمّا جَكَرْمِش فإنّه سار إلى حَرّان وتسلّمها، وقرّر بها نائبه، وسار فحاصر الرُّها خمسة عشر يوماً وبها الفرنج، ثمّ ترحّل إلى المَوْصِل وفي أسره القُمْص، ففاداه بخمسة وثلاثين ألف دينار، ومائة وستّين أسيرًا من المسلمين؛ -[689]- حكاها ابن الأثير، وقال: كَانَ عدّة القَتْلَى تقارب اثني عشر ألف قتيل.
وفيها مات صاحب دمشق شمس الملوك دُقاق بْن تتش، وأُقيم ولده بتدبير الأتابك طُغْتِكِين، وقيل: بل لمّا مات دُقَاق أحضر طُغْتِكِين أرتاش أخا دُقَاق من بَعْلَبَكّ، وكان أخوه حَبَسه بقلعتها، فلمّا قدِم سَلْطَنَه طُغْتِكِين، فبقي في المُلْك ثلاثة أشهر، ثمّ هرب سرًّا لأمرٍ توهَّمه من طُغْتِكِين، فذهب إلى بَغْدَوِين الّذي ملك القدس مستنصرًا بِهِ، فلم يحصل منه عَلَى أملٍ، فتوجه إلى العراق عَلَى الرحبة فهلك في طريقه.
وأمّا صَنْجيل - لعنه اللَّه - فطال مُقامُه عَلَى طرابلس، حتّى أَنَّهُ بنى عَلَى ميلٍ منها حصناٍ صغيرًا، وشحنه بالرّجال والسّلاح، فخرج صاحب طرابلس ابن عمّار في ذي الحجّة، فهجم هذا الحصن وملكه، وقتل كل من فيه، وهدم بعضه، ودخل البلد بالغنائم منصوراً، وكان ابن عمار بطلاً، شجاعاً، مهيباً، برز إلى الفرنج مرات، وانتصر عليهم، وبذل وسعه في الجهاد.
وفيها جمع بزغش مقدم جيش سنجر عسكراً كثيرًا وخلقًا من المُطَّوِّعة، وسار إلى قتال الإسماعيلية، وقصد طبس، وهي لهم، فخربها وما جاورها من القلاع والقرى، وأكثر فيهم النَّهْب والسَّبْي والقتل، وفعل بهم الأفعال العظيمة. ثم إن أصحاب سنجر أشاروا بأن يؤمَّنُوا، ويشترط عليهم أن لا يبنوا حصناً، ولا يشتروا سلاحاً، ولا يدعوا أحدًا إلى عقائدهم، فسخط كثيرٌ من النّاس هذا الأمان، ونقموه عَلَى السّلطان سَنْجَر، ومات بزغش، وخُتِمَ لَهُ بغزو هَؤُلَاءِ الكلاب الزّنادقة.