في وسطها كَانَ مصاف كبير بين السلطانين: محمد، وبركياروق، كَانَ مَعَ بَركيَارُوق خمسون ألفًا، فانهزم محمد، وأسر وزيره مؤيد الملك، فذبحه بركياروق بيده، وكان بخيلاً ظالما، سيئ الخلق، مذموم السيرة، إلّا أَنَّهُ كَانَ من دهاة العالم، عاش خمسين سنة.
ودخل بركياروق إلى الرّيّ وسجد لله، وجاء إلى خدمته صاحب الموصل كربوقا، ونور الدولة دبيس ولد صدقة.
وانهزم محمد إلى خراسان، فأقام بجرجان، وراسل أخاه لأبويه الملك سنجر يطلب منه مالًا وكسوة، فسيَّر إِلَيْهِ ما طلب، ثمّ تحالفا وتعاهدا واتّفقا. -[674]-
ولم يكن بقي مع محمد غير ثلاثمائة فارس، فقدم إِلَيْهِ أخوه سَنْجَر وانضمّ إليهما عسكرٌ كثير، وتضرر بالعسكر أهل خراسان.
وأما السلطان بركياروق، فصار جيشه قريبًا من مائة ألف، فغلت الأسعار، واستأذنته الأمراء في التفرق للغلاء، فبقي في عسكر قليل، فبلغ ذَلِكَ أخَوَيْه، فقصداه وطَوَيا المراحل، فتقهقر ونقصت هيبته، وقصد هَمَذَان، فبلغه أنّ إياز متولّيها قد راسل محمدًّا ليكون معه، فسار إلى خُوزِسْتان، ثمّ خرج إلى حلوان. وأمّا إياز فلم يقبله محمد، فخاف وهرب إلى عند بَركيَارُوق، فدخلت أصحاب محمد، ونهبوا حواصله، فيقال إنهم أخذوا له خمسمائة فرس عربية، وتكامل مع بركياروق خمسة آلاف ضعفاء، قد ذهبت خيامهم وثقلهم، فقدم بهم بغداد، وتمرض، وبعث يشكو قلّة المال إلى الدّيوان، فتقرَّر الأمر عَلَى خمسين ألف دينار حُمِلت إِلَيْهِ، ومد أصحابه أيديهم إلى أموال الرّعية وظلموهم. وخرج عَنْ طاعته صاحب الحلّة، وخطب لأخيه محمد، وفي آخر العام وصل محمد وسَنْجَر إلى بغداد، وجاء إلى خدمته إيلغازي بْن أُرْتُق، وتأخر بَركيَارُوق وهو مريض إلى واسط، وأصحابه ينهبون القرى ويأكلون، وفرح الخليفة والناس بالسلطان محمد.
وفيها أو في حدودها ظهرت الباطنية بالعراق ونواحيها، وكثروا؛ قال أبو الفرج ابن الجوزي في المنتظم: أول ما عرف من أخبار الباطنية، في أيام ملك شاه، أنّهم اجتمعوا فَصَلُّوا العيد في ساوَة، ففِطن بهم الشحنة، فأخذهم وحبسهم، ثم أطلقهم، فسألوا مؤذناً من أهل ساوة أنّ يدخل في مذهبهم، فامتنع، فخافوا أنّ ينمّ عليهم، فقتلوه، فرُفِع ذَلِكَ إلى نظام الملك، فأخذ رجلاً نجاراً اتهمه بقتله فقتله، فتحيلوا حتى قتلوا نظام الملك، وهو أوّل من فتكوا بِهِ، وكانوا يقولون: قتلتم منّا نجّارًا، فقتلنا بِهِ نظام المُلْك، ثمّ استفحل أمرهم بأصبهان، ولمّا مات السّلطان ملكشاه، آل أمرهم إلى أنّهم كانوا يسرقون الناس فيقتلونهم ويلقونهم في الآبار، فكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله يئسوا منه، وبلغ من حيلهم أنهم أجلسوا امرأة على حصير لا تبرح منه، فدخلوا الدار، يعني الأعوان، فأزالوها، فوجدوا تحت الحصير بئرًا فيها -[675]- أربعون قتيلًا، فقتلوا المرأة، وهدموا الدّار، وكانوا يجلسون ضريرًا عَلَى باب زُقاقهم، فإذا مرّ بِهِ إنسان سأله أنّ يقوده إلى رأس الزُّقاق، فإذا فعل جذبه من في الدار إليها فقتلوه، فجدّ أهل إصبهان فيهم، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
وأول قلعة ملكوها قلعة الروذبار بناحية أصبهان، كانت لقماج صاحب ملكشاه، وكان متهماً بمذهبهم، فلمّا مات ملكشاه أعطوه ألفًا ومائتي دينار، فسّلمها إليهم في سنةٍ ثلاثٍ وثمانين، وقيل: لم يكن ملكشاه مات بعد.
وكان مقدَّمهم يقال لَهُ الحَسَن بْن الصّبّاح، وأصله من مَرْو، وكان كاتبًا لبعض الرؤساء، ثمّ صار إلى مصر وتلقّى من دعاتهم، وعاد داعيةً للقوم، وحصّل هذه القلعة، وكان لا يدعو إلا غبياً، ثم يذكر لَهُ ما تمّ عَلَى أهل البيت من الظلم، ثمّ يَقُولُ لَهُ: إذا كانت الأزارقة والخوارج سمحوا بنفوسهم في القتال مَعَ بني أُميّة، فما سبب تخلُّفك بنفسك عَنْ إمامك؟ فيتركه بهذه المقالة طعمة للسباع. وكان ملكشاه نفَّذ إِلَيْهِ يتهدّده ويأمره بالطّاعة، ويأمره أنّ يكفّ أصحابه عَنْ قتل العلماء والأمراء، فقال للرسول: الجواب ما تراه، ثمّ قَالَ لجماعةٍ بين يديه: أريد أنّ أُنْفذكم إلى مولاكم في حاجةٍ، فمن ينهض بها؟ فاشرأبّ كلُّ واحدٍ منهم، وظنّ الرَّسُول أنّها حاجة، فأومى إلى شابّ فقال: اقتل نفسك، فجذب سكيناً، فقال بها في غلصمته، فخرَّ ميتًا، وقال لآخر: إرمِ نفسَك من القلعة، فألقى نفسه فتقطع، ثم قال للرسول: قل لَهُ عندي من هَؤُلَاءِ عشرون ألفًا، هذا حدّ طاعتهم، فعاد الرَّسُول وأخبر ملكشاه، فعجب، وأعرض عن كلامهم.
وصار بأيديهم قلاعٌ كثيرة، منها قلعةٌ عَلَى خمسة فراسخ من إصبهان، وكان حافظها رجلًا تركيا، فصادقه نجارُ منهم، وأهدى لَهُ جارية، وقوسًا، فوثق بِهِ، وكان يستنيبه في حفظ القلعة، فاستدعى النّجّار ثلاثين رجلًا من أصحاب ابن غطاس، وعمل دعوة، ودعا التركي وأصحابه، وسقاهم الخمر، فلما سكروا استقى الثلاثين بحبال إليه، فقتلوا أصحاب التركي، وسلم -[676]- التركي وحده، فهرب، وملكوا القلعة.
وقطعوا الطُّرقات ما بين فارس وخوزستان، وانصرف جماعة من أصحاب جاولي إليهم وصاروا منهم؛ ثم ظفر جاولي بثلاثمائة منهم، فأحاط هُوَ وجنده بهم فقتلوهم، وكان جماعة منهم في عسكر بَركيَارُوق، فاستغووا خلقًا منهم، فوافقوهم، فاستشعر أصحاب السلطان منهم، ولبسوا السّلاح، ثمّ قتلوا منهم نحو مائة رجل.
وكان بنواحي المشان رَجُل منهم يتزهد ويدّعي الكرامات، أحضر مرة جدياً مشوياً لأصحابه، فأكلوا منه، وأمر بردّ عظامه إلى التّنّور، فردت، وجعل على التنور طبقاً، ثم رفع الطبق فوجدوا جديا يرعى حشيشًا، ولم يروا نارًا ولا رمادًا، فتلطف بعض أصحابه حتّى عرف بأن التنور كَانَ يفضي إلى سرداب، وبينهما طبق من حديد يدور بلَوْلَب، فيفرك اللَّوْلَب، فتدور النّار، ويجيء بدلها الجدْيُ والمَرْعَى.
وقال الغزالي في كتاب " سرّ العالمين ": شاهدتُ قصة الحَسَن بْن الصّبّاح لمّا تزهّد تحت حصن أَلَمُوت، فكان أهل الحصن يتمنون صعوده إليهم، ويمتنع ويقول: أما ترون المُنْكَر كيف فشا؟ وفسد الناس، فصار إليه خلق، فخرج أمير الحصن يتصيّد، وكان أكثر تلامذته في الحصن، فأصعدوه إليهم وملّكوه، وبعث إلى الأمير من قتله، ولمّا كثرت قلاعهم، واشتغل عَنْهُمْ أولاد ملكشاه باختلافهم اغتالوا جماعةً من الأمراء والأعيان.
وللغزاليّ - رحمه اللَّه - كتاب " فضائح الباطنيّة "، ولابن الباقِلّانيّ، والقاضي عَبْد الجبّار، وجماعة: الرد على الباطنية، وهم طائفة خبيثة، يظهرون الزهد، والمراقبة، والكشف، فيضلّ بهم كلّ سليمِ الباطن.
قال ابن الأثير: وفي شعبان من سنة أربعٍ وتسعين أمر السّلطان بَركيَارُوق بقتل الباطنيّة، وهم الإسماعيليّة، وهم القرامطة، قَالَ: وتجرّد بأصبهان للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بْن محمد الخُجُنْديّ الفقيه الشّافعيّ، وجمع الْجَمَّ الغفير بالأسلحة، وأمر بحفر أخاديد أوقدوا فيها النيران، وجعل -[677]- عليها رجلًا لقّبوه مالكًا، وجعلت العامّة يأتون ويلقونهم في النار، إلى أنّ قتلوا منهم خلقًا كثيرًا، إلى أنّ قَالَ: وكان الحَسَن بْن الصّبّاح رجلًا شهمًا، كافيا، عالمًا بالهندسة، والحساب، والنّجوم، والسحر، وغير ذَلِكَ، وكان رئيس الرّيّ أبو مسلم، فاتهم ابن صباح بدخول جماعة من دعاة المصريّين عَلَيْهِ، فخافه ابن صباح وهرب، فلم يُدركْه أبو مُسْلِم، وكان ابن صباح من جملة تلامذة أحمد بن غطاس الطّبيب الّذي ملك قلعة إصبهان، وسافر ابن صباح فطاف البلاد، ودخل عَلَى المستنصر صاحب مصر، فأكرمه وأعطاه مالًا، وأمره أنّ يدعو النّاس إلى إمامته، فقال لَهُ الحَسَن بْن الصّبّاح: فَمَن الْإِمَام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نِزَار.
ولمّا هلك المستنصر واستخْلف ولده المُسْتعلي صار نزار هذا إلى الإسكندرية، ودعا إلى نفسه، فاستجاب لَهُ خلْقٌ، ولُقّب بالمصطفى لدين اللَّه، وقام بأمر دولته ناصر الدّولة أفتكين مَوْلَى أمير الجيوش بدر، وهذا في سنة سبع وثمانين وأربعمائة. فسار عسكر مصر لحصار الإسكندريّة في سنة ثمانٍ وثمانين، فخرج ناصر الدولة وطردهم، فردّوا خائبين، ثمّ سار الأفضل فحاصر الإسكندريّة وأخذها، وأسر نزارا، وأفتكين وعدة، وجرت أمور.
ودخل الحسن بن صباح خراسان، وكاشغر، والنّواحي، يطوف عَلَى قومٍ يضلهم، فلما رأى قلعة ألموت بناحية قزوين أقام هناك، وطمع في إغوائهم، ودعاهم في السر، وأظهر الزُّهد، ولبس المُسُوح، فتبعه أكثرهم.
وكان نائب أَلَمُوت رجلًا أعجميًّا عَلَويًّا، فيه بَلَهٌ وسلامة صدرٍ، وكان حَسَن الظن بالحسن، يجلس إليه، ويتبرك به، فلما أحكم الحسن أمره دخل يومًا على العلوي فقال له: أخرج من هذه القلعة، فتبسم، وظنه يمزح، فأمر الحسن بعض أصحاب العلوي فأخرجوه، وأعطاه ماله، فبعث نظام الملك لمّا بلغه الخبر عسكراً، فنازلوه وضايقوه، فبعث من قتل نظام الملك، وترحّل العسكر عَنْ أَلَمُوت، ثمّ بعث السلطان محمد بْن ملكشاه إليها العسكر وحاصروها.
ومن جملة ما استولوا عَلَيْهِ من القلاع: قلعة طبس، وزوزن، وقاين، -[678]- وسيمكوه، وتأذى بهم أهل أبهر، واستغاثوا بالسلطان، فبعث عسكراً حاصروها ثمانية أشهر، وفتحت، وقتل كل من بها، ولهم عدّة قلاعٍ سوى ما ذكرنا.
قَالَ: وكان تيرانشاه ابن تورانشاه بْن قاروت بك السَّلْجُوقيّ بكرْمان قد قتل الإسماعيليّة الأتراك أصحاب الأمير إسماعيل، وكانوا قومًا سُنّة، قتلَ منهم ألفي رَجُل صبْرًا، وقطع أيدي ألفَيْن، ونفق عَلَيْهِ أبو زُرْعة الكاتب، فحسّن لَهُ مذهب الباطنيّة، فأجاب، وكان عنده الفقيه أحمد بْن الحُسين البلْخيّ الحنفيّ، وكان مُطاعًا في النّاس، فأحضره عنده ليلةً، وأطال الجلوس، فلما خرج أَتْبَعه من قتله، فلمّا أصبح دخل عَلَيْهِ النّاس، وفيهم صاحب جيشه، فقال: أيُّها الملك، من قتل هذا الفقيه؟ فقال: أنت شِحْنةُ البلد، تسألني من قتل هذا؟ أنا أعرف قاتله! ونهض، ففارقه الشحنة في ثلاثمائة فارس، وسار من كرْمان إلى ناحية إصبهان، فجهّز الملك خلفه ألفي فارس فقاتلهم وهزمهم. وقدم إصبهان وبها السلطان محمد، فأكرمه.
وأمّا عسكر كرمان، فخرجوا على تيرانشاه، وحاربوه وطردوه عن مدينة بردسير الّتي هِيَ قصبة كرمان، وأقاموا عليهم ابن عمه أرسلان شاه، وأمّا تيرانشاه فالتجأ إلى مدينة صغيرة، فمنعه أهلها وحاربوه، وأخذوا خزائنه، ثم تبعه عسكر، فأخذوه، وأخذوا أبا زُرْعة، فقتلهما أرسلان شاه.
واستفحل أمر الباطنيّة وكثروا، وصاروا يتهدّدون من لا يوافقهم بالقتل، حتّى صارت الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم، وكان الوزير الأعزّ أبو المحاسن يلبس زَرَدِيّةً تحت ثوبه، وأشارت الأمراء على بَركيَارُوق السّلطان بقصْدهم قبل أنّ يعجز عَنْ تلافي أمرهم، فأذن في قتلهم، وركب هُوَ والعسكر وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم.
وممّن قتل واتهم بأنه مقدَّمهم الأمير محمد بْن كاكَوَيْه صاحب يزد، ونهبت خيامه، وقتل جماعة برءاء سعى بهم أعداؤهم. وقد كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديمًا في أيّام المقتدي باللَّه، فأنهي حالهم إلى الوزير أبي شجاع، فطلبهم، فأنكروا وجحدوا، فأطلقهم. واتُّهم إلكيّا الهَرَاسّي مدرْس -[679]- النّظَاميّة بأنّه باطنيّ، فأمر السّلطان محمد بالقبض عليه، ثم شهدوا له ببراءة الساحة، فأطلق.
وفيها حاصر الأمين بزغش، وهو أكبر أمراء الملك سَنْجَر، حصن طبس الّذي فيه الإسماعيليّة، وضيّق عليهم، وخرّب كثيراً من سورها بالمنجنيق، ولم يبق إلّا أخذها، فرحل عَنْهُمْ وتركهم، فبنوا السور، وملؤوا القلعة ذخائر، ثمّ عاودهم بزغش سنة سبعٍ وتسعين.
وفيها سار كُنْدفْري صاحب القدس إلى عكّا فحاصرها، فأصابه سهم فقتله، فسار أخوه بَغْدَوِين، ويُقال: بردويل، إلى القدس في خمسمائة، فبلغ الملك دُقَاق صاحب دمشق، فنهض إِلَيْهِ هو وجناح الدولة صاحب حمص، فانكسرت الفرنج.
وفيها ملكت الفرنج سَرُوج، من بلاد الجزيرة، لأنّهم كانوا قد مَلَكوا الرُّها بمكاتبةٍ من أهلها النّصارى، وليس بها من المسلمين إلا قليل، فحاربهم سُقْمان، فهزموه في هذه السنة، وساروا إلى سروج، فأخذوها بالسيف، وقتلوا وسبوا.
وفيها ملكوا مدينة حَيْفا، وهي بقرب عكّا على البحر، أخذوها بالأمان، وأخذوا أرسوف بالأمان. وفي رجب أخذوا قَيْساريّة بالسّيف، وقتلوا أهلها.
وفي رمضان أمر المستظهر باللَّه بفتح جامع القصر، وأن تصلى فيه التراويح، وأن يجهر بالبسملة، ولم تجر بهذا عادة، وإنّما تركوا الجهر بالبسملة في جوامع بغداد مخالفةً للشّيعة أصحاب مصر، وأمر أيضًا بالقنوت على مذهب الشافعي.
قصة ابن قاضي جَبَلة أَبِي محمد عُبَيْد اللَّه بْن صُلَيْحَة:
كانت جَبَلَة تحت حكم ابن عمّار صاحب طرابُلُس، فتعانى ابن صليحة الجندية، وكان أَبُوهُ قاضيا، فطلع هُوَ فارسًا شجاعًا، فأراد ابن عمّار أنّ يمسكه، فعصى عَلَيْهِ، وأقام الخطبة العبّاسيّة، وحوصر، فلم يقدروا عَلَيْهِ، ثم لما غلبت الفرنج حاصروه، فشنع أن بركياروق وعساكره قد توجهوا إلى الشام، فرحلت الفرنج، ثم عاودوه، فأرجفهم بمجيء المصريين، فرحلوا عنه، ثمّ عادوا لحصاره، فقرّر مَعَ رعيّته النّصارى أن يراسلوا الفرنج، ويواعدوهم إلى -[680]- برج ليطلعوا منه، فبادروا وندبوا ثلاثمائة من شجعانهم، فلم يزالوا يطلعون في الحبال واحدًا واحدًا، وكلّما طَلَع واحدٌ قتله ابن صُلَيْحة، إلى أنّ قتلهم أجمعين، فلمّا طلع الضوء صفف الرؤوس عَلَى السّور، ثمّ إنّهم هدموا بُرجًا، فأصبح وقد عمله، وكان يخرج من الباب بفوارسه يقاتل، فحملوا مرة عليه، فانهزم فتبعه الفرنج، فخرج أهل البلد، وركبوا أكتافهم فانهزموا، وجاء النصر، وأسر مقدم الفرنج، ثم علم ابن صليحة أن الفرنج لا ينامون عَنْهُ، فسلّم البلد إلى صاحب دمشق، وسار إلى بغداد بأمواله وخزائنه، وأخذ له السلطان بركياروق شيئاً كثيراً.
وفيها أقبل جيش للفرنج، نحو خمسين ألفا، فمروا ببلاد قِلِج أرسلان، فحشد وجمع وعَرَض ستة آلاف فارس نقاوة، وعمل له كميناً، فكسر الفرنج كسرة مشهورة، وغنم ما لا يوصف.
قال ابن منقذ: حدثني محمد المستوفي رسول جناح الدّولة إلى ملك الروم، أنهم اعتبروا عدتهم، فكانوا ثلاثمائة ألف وخمسة وأربعين ألف إنسان، ومعهم خمسون حِمْل ذهب وفضةٍ وديباجٍ، فانضاف إليهم الذين انهزموا من الوقعة المذكورة، فجمع قلج أرسلان التَّرْك ببلاده، فزادوا عَلَى خمسين ألفًا، وغوّر الماء الّذي في طريقهم، وأحرق العُشْب، وأخلى القُرى، فأقبلوا في أرضٍ بلا ماء ولا مرعى.
قال: وحدثني رسول رضوان إلى ملك الفرنج طنكلي أنه اجتمع مع الملك تبنين صاحب هذا الجمع، فقال: خرجت من بلادي في أربعمائة ألف، منهم ألفا شرابيّ، وألف طبّاخ، وألف فراش، وسبعمائة بغْل ديباج، ومال، والخيّالة تزيد عَلَى خمسين ألفًا، ولمّا سرتُ عَن القسطنطينيّة أيّامًا، لم أجد مرفقًا، ولا قبلت من صَنْجيل في غير هذه الطّريق، ولا أتمكن من العودة لضعف الناس والعطش والجوع، فعند الإياس خرجت في ثلاثة نفر، معنا كلاب وبزاة، أوهمت الناس أني أتصيد، وسرت إلى البحر، فنزلت في مركب، وتركت العسكر، وبَلَغَني أنّ التُّرْك دخلوه، فلم يمنع أحدٌ عَنْ نفسه، وهلكوا بالموت والقتْل، وغنم التُّرْكمان ما لا يوصف، ثم سار تبنين وحج القدس، ورجع إلى بلاده في البحر. -[681]-
وفيها قدم عسكر المصريين، فالتقاهم الفرنج، فانهزم الفريقان بعد ملحمة كبيرة بقرب عسقلان.