فيها بعث السّلطان جيشًا عليهم الأمير أُرْتُق بن أكسب نجدة لفخر الدولة ابن جَهير، وكان ابن مروان قد مضى إلى شرف الدّولة صاحب الموصل، واستنجد به على أن يُسلّم إليه آمد، وحلف له على ذلك، وكانت بينهما إحَنٌ قديمة، فاتفقا على حرب ابن جهير وسارا، فمالَ ابنُ جهير إلى الصُّلْح، وعلمت التُّرْكُمان نيّته، فساروا في الليل، وأتوا العرب فأحاطوا بهم، والْتَحم القتال فانهزمت العرب، وأُسِرَت أمراء بني عقيل، وغنمت التُركمان لهم شيئا -[316]- كثيرًا، واستظهر ابن جَهير وحاصر شرف الدّولة، فراسَلَ شرف الدّولة أرتق وبذل له مالًا، وسأله أن يمُن عليه ويمكنه من الخروج من آمد، فإذن له، فساق على حَمِية، وقصد الرقة، وبعث بالمال إلى أرتق. وسار فخر الدّولة إلى خلاط، وبلغ السّلطان أنّ شرف الدّولة قد انهزم وحُصر بآمد، فجهز عميد الدّولة بن جُهير في جيش مَدَدًا لأبيه، فقدِم الموصل، وفي خدمته من الأمراء: قسيم الدّولة آقسنقر جد السّلطان نور الدين رحمه الله والأمير أرتق، وفتح له أهل الموصل البلد فتسلمه.
وسار السّلطان بنفسه ليستولي على بلاد شرف الدّولة بن قريش، فأتاه البريد بخروج أخيه تكش بخراسان، فبعث مؤيد الدولة ابن النظام إلى شرف الدّولة، وهو بنواحي الرحبة، وحلف له، فحضر إلى خدمة السّلطان، فخلع عليه، وقدم هو خيلًا عربيّة من جملتها فرسَه بَشّار، وكان فرسًا عديم النظير في زمانه، لا يُسْبق، فأُجري بين يديه فجاء سابقا، فوثب قائما من شدة فرحه، وصلح شرف الدولة. وعاد إلى خُراسان لحرب أخيه، وكان قد صالحه، فلما رأى تكش الآن بُعد السّلطان عنه عاد إلى العصيان، فظفر به السّلطان فكحله وسجنه، ولو كان قتله لاستراح؛ لأنه قصد مرو بعد، فدخلها وأباحها لعسكره ثلاثة أيام، فنهبوا الأموال وفعلوا العظائم، وشربوا في الجامع في رمضان.
وفيها سار سُليمان بن قُتْلُمِش السلْجوقيْ صاحب قونية وأقصرا بجيوشه إلى الشّام، فأخذ أنطاكية، وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وسبب أخذها أنّ صاحبها كان قد سار عنها إلى بلاد الروم ورتب بها شحنة، وكان مسيئًا إلى أهلها وإلى جُنده حتّى أنه حبس ابنه، فاتفق ابنه والشحنة على تسليم البلد إلى سُليمان، فكاتبوه يستدعونه، فركب في البحر في ثلاثمائة فارس، وجمع من الرّجّالة، وطلع من المراكب، وسار في جبالٍ وعرة ومضائق صعبة حتّى وصل إليها بغتةً ونصب السلالم ودخلها في شعبان، وقاتلوه قتالًا ضعيفًا، وقتل جماعة وعفا عن الرعيّة وعدل فيهم، وأخذ منها أموالًا لا تُحصى، ثمّ أرسل إلى السّلطان ملكشاه يبشّره، فأظهر السّلطان السرور، وهنأه النّاس.
وفيها يقول الأبيوردي قصيدته، منها: -[317]-
لَمَعْت كناصية الحِصان الأشقرِ ... نارٌ بمعتَلِج الكثيبِ الأعفر
وفتحتَ أنطاكيَّة الرّوم التي ... نَشَرَتْ مَعَاقِلَها على الإسكندرِ
وطِئَتْ مناكبَها جيادُك فانْثَنَت ... تُلقِي أجِنِّتها بناتُ الأصفرِ
وأرسل شرف الدّولة مسلم بن قريش إلى سُليمان يطلب منه الحَمل الذي كان يحمله إليه صاحبُ أنطاكية، فبعث يقول له: إنّما ذاك المال كان جزية رأس الفردروس، وأنا بحمد الله فمؤمن، ولا أعطيك شيئًا. فنهب شرف الدّولة بلاد أنطاكيّة، فنهب سُليمان أيضًا بلاد حلب، فاستغاث له أهلُ القرى فرقَّ لهم، وأمرَ جُنْدَه بإعادة عامّة ما نهبوه.
ثمّ إنّ شرف الدّولة حشد العساكر وسار لحصار أنطاكية، فأقبل سُليمان بعساكره، فالتقيا في صَفَر سنة ثمانٍ وسبعين بنواحي أنطاكية، فانهزمت العرب، وقُتل شرف الدّولة بعد أن ثبت وقتل بين يديه أربعمائة من شباب حلب. وكان أخوه إبراهيم في سجنه، فأخرجوه وملكوه، وسار سُليمان فنازل حلب وحاصرها أكثر من شهر، وترحل عنها.
وفيها وُلْي شِحْنكيّة بغداد قسيم الدّولة آقْسُنْقر.