فيها هُنئ الخليفة بالعافية من جُدَري أصابه، وكتم ذلك إلى أن عُوفي.
وكبس البرجميُّ دربًا وأخذ أموالًا. وتفاوض الناسُ أنَّ جماعةً من الْجُنْد خرجوا إليه وواكلوه، فخاف الناس ونقلوا الأموال إلى دار الخلافة، وواصلوا -[349]- المبيت في الأسواق والدُّروب، فقُتِل صاحب الشُّرطة بباب الأزج، واتصلت العَمْلات. وأُخِذ من دار تاجر ما قيمته عشرة آلاف دينار، وبقي الناس لا يتجاسرون على تسميته إلا أن يقولوا: القائد أبو عليّ.
وشاع عنه أنّه لا يتعرض لامرأة، ولا يمكِّن أحدًا من أخذ شيء عليها أو معها. فخرج جماعة من القُوّاد والجند وطلبوه لمّا تعاظَمَ خطره وزاد بلاؤه. فنزلوا الأَجَمَة التي يأوي إليها، وهي أجَمَة ذات قصب كثير تمتدّ خمسة فراسخ، وفي وسطها تلّ اتّخذه معقلًا، ووقفوا على طُرُقها. فخرج البُرْجميّ وعلى رأسه عمامة فقال: من العجب خروجكم إليّ وأنا كلّ ليلة عندكم، فإن شئتم أن ترجعوا وأدخل إليكم، وإن شئتم أن تدخلوا فافعلوا.
ثم زادت العملات والكبسات، ووقع القتال في القلائين وفي القنطرتين، وأُحرقت أماكن وأسواق ومساجد، ونُهب درب عَوْن وقُلعت أبوابه، ودَرْب القراطيس، وغير ذلك.
ثمّ ثارت الجند ووقعوا في السلطان، وأنهم ضائعون، واجتمعوا وراسلوه أن ينتقل إلى واسط أو البصرة، واعتقلوه وأنزلوه سُمَيْريّة وابتلّت ثيابه وأهين. ثم رجموه وأخرجوه ومشوا به ثم أعطاه بعض الأتراك فرسه فركبها.
وواجههوه بالشَّتم، ثم أنزلوه فوقف على العَتَبة طويلًا، ثمّ أُدخل المسجد. ثمّ تآمروا على نقله إلى دار المهلبية.
وخرج القائد أبو الوفاء ومعه عشرون غلامًا وحاشية الدَّار والعوّام ومن تاب من العيَّارين، وهجموا على الأتراك فتفرَّقوا، وأخذوه من أيديهم وأعادوه إلى داره، وكان ذلك في رمضان.
ثمّ عبرَ في آخر الليل إلى الكَرْخ، فتلقّاه أهلُها بالدّعاء، فنزل في الدار التي للشريف المرتضى.
ثمّ اجتمع الأتراك وعزموا على عقد الجسر والعبور إلى الكَرْخ؛ ليأخذوا الملك. ثمّ وقع بينهم الخُلْف وقالوا: ما بقي من بني بويه إلا هذا، وابن أخيه أبو كاليجار قد سلَّم الأمر إليه ومضى إلى فارس. ثمّ كتبوا إليه رُقْعة: " نحن عبيدك وقد ملَّكناك أمورنا مِن الآن، وقد تعدَّينا عليك، ولكنْ نكلّمك في مصالحنا، فتعتذر إلينا ولا نجد لذلك أثرًا، ولَك ممالك كثيرة فيجوز أن تطرح ذلك مدّة، وتوفر علينا هذه الصبابة من المادّة، والصواب أن لا تخالفنا ".
وأنفَذوا الرُّقعة إلى المرتضى ليعرضها عليه، فأجاب بأنّا معترفون لكم بما -[350]- ذكرتم، وما يحصل لنا نصرفه إليكم.
فلمّا وصل القول نَفَروا وقالوا: هذا غرضه المدافعة. ثمّ حلّفوه على صلاح النِّيَّة، وبعد ذلك دخلوا وقبَّلوا الأرضَ بين يديه، وهو في دار المرتضى، وسألوه الصَّفْح، وركب معهم إلى دار المملكة.
ثمّ زاد أمر العَمْلات والكبْسات، وتعدَّوا إلى الجانب الشَّرقيّ فأفسدوا. ووقع القتال، وحمل العيَّارون السلاح، وكثر الهرج.
ثم ثار العوّام إلى جامع الرّصافة ببغداد فمُنعوا من الخطبة، ورجموا القاضي أبا الحسين ابن الغريق، وقالوا: إن خطبت للبرجميّ، وإلّا فلا تخطب لخليفة ولا لملك.
ثم أُقيم على المعونة أبو الغنائم بن عليّ، فركب وطاف وقتل، فوقعت الرَّهْبة.
ثم إنّ بعض القُوّاد أخذ أربعةً من أصحاب البرجميّ فاعتقلهم، فاحتدّ البرجميّ وأخذ أربعةً من أصحاب ذلك القائد، وجاء بهم إلى دار القائد فطرق عليه الباب فخرج، ووقف خلف الباب فقال له: قد أخذتُ أربعةً من أصحابك فأطلق أصحابي لأطلق أصحابك، وإلا ضربت أعناقهم وأحرقت دارك. فأطلقهم له.
وممّا يشاكل هذا الوهْن أنّ بعض أعيان الأتراك أراد أن يطهّر ولده، فأهدى إلى البرجميّ حُمْلانًا وفاكهةً وشرابًا، وقال: هذا نصيبك من طهور ولدي؛ يداريه بذلك.
ولم يحجّ العراقيّون ولا المصريّون أيضًا خوفًا من البادية.
وحجّ أهل البصرة مَعَ مَن يخفرهم، فغدروا بهم ونهبوهم، فالأمر لله.