في المحرم خرجوا ببغداد للاستسقاء.
وفي عاشوراء عُلقت المُسُوح وناحوا، أقام ذلك العيارون. -[345]-
وفيها ثار أهل الكرخ بالعيَّارين فهربوا، وكبسوا دورهم ونهبوا سلاحهم، وطلبوا من السلطان المعاونة؛ لأن العيّارين نهبوا تاجرًا فغضب له أهلُ سوقِهِ، فردَّ العيَّارون بعضَ ما أخذوا، ثم كبسوا دار ابن الفَلْو الواعظ وأخذوا ماله، وأخذوا في الكبسات، وانضاف إليهم مولدوا الأتراك وحاشيتهم.
ثمّ إنّ الغلمان صمّموا على عزل جلال الدّولة وإظهار أمر أبي كاليجار، وتحالفوا وقالوا: لا بُدَّ أن يروح عنّا إلى واسط. ثم قطعوا خطبته، فانزعج وأنفذ سراريه إلى دار الخلافة، وخيّر الباقيات في أن يُعْتِقُهُنَّ، وطلب من الغلمان أن يخْفُرُوه، وقال: لا أخرج على غير قاعدة.
وامتلأ جانبا دجلة بالناس، وتردّدت الرسل إلى الملك بالنُّزُوح، وقال: ابعثوا معي مائة غلام يحرسوني. فقالوا: بل عشرون. فقال: أريد سفينةً تحملني، ونفقة تُوصلني. فقرّروا بينهم إطلاق ستّين دينارًا نَفَقَة، فالتزم بعض القوّاد منها بثلاثة دنانير. فلمّا كان اللّيل خرج نفرٌ من غلمانه إلى عُكْبِرا على وجه المخاطرة فبادر الغلمان إلى دار المملكة فنهبوها.
وكَتَب الملأ إلى أبي كاليجار بما فعلوه من اجتماع الكلمة عليه، وطلبوا منه مَن ينوب عنه. فلمّا بلغه قال: هؤلاء الأتراك يكتبون ما لا يعتقدون الوفاء به ولا يَصْدُقون. فإنْ كانوا مُحِقِّين في طاعتهم فليُظهروا شعارنا ولْيُخرجوا مَن عندهم، ولا أقل من أن يسيروا إلي منهم خمسمائة غلام لأتوجه معهم.
وكان وزيره ابن قبة الّذي وقفَ الكُتُب على العلماء، وهي تسعة عشر ألف مجلَّد، فيها أربعة آلاف بخطّ ابن مقلة.
ثمّ اختلّت المملكة، وقُطِع عن جلال الدولة المادة التي حتى باع من ثيابه الملبوسة في الأسواق، وخَلَت دارُه من حاجب وفرّاش، وقُطع ضرب الطبل لانقطاع الطبالين، وتخبّط أمر بغداد، ومدَّ الأتراك أيديهم إلى النهب، وتشاور القُوّاد أن يخطبوا للملك أبي كاليجار، وتوقفوا.
وخرج جلال الدّولة إلى عُكْبَرا وقَصَد كمال الدّولة أبا سِنان فاستقبله أبو سِنان وقبّل الأرض وقال: خزائني وأولادي لك، وأنا أتوسط بينك وبين جُنْدك، وزوّجه ابنته. ثمّ جاءه جماعة من الْجُنْد معتذرين، وأُعِيدت خُطبته. -[346]-
وجاءته رسل الخليفة وهو يستوحش له.
ثمّ بعث الخليفة القاضي أبا الحسن الماوَرْديّ والطُّواشِيّ مبشِّرًا إلى الأهواز إلى أبي كاليجار. قال الماوردي: فقدمنا عليه فأنْزَلنا، وحُمِلَت إلينا أموال كثيرة، وأحضرنا وقد فُرِشت دار الإمارة، ووقف الخواصّ على مراتبهم من جانِبَيْ سريره، وفي آخر الصَّفَّين ستمائة غلام دارية بالبِزَّة الحَسَنة الملوَّنة، فخدمنا وسلَّمنا عليه وأوصلْنا الكتاب.
وتردّد القول بين إخبار واستخبار، وانصرفنا. ثمّ جرى القول فيما طلب من اللّقب، واقترح أن يكون اللّقب: " السلطان الأعظم، مالك الأمم ". قلنا: هذا لا يمكن؛ لأنّ السّلطان المعظّم الخليفة، وكذلك مالك الأمم.
فعدلوا إلى: " ملك الدولة ". فقلت: هذا ربما جاز. وأشرت بأن يخدم الخليفة بأَلطافٍ، وقالوا: يكون ذلك بعد التلقيب.
قلت: الأوْلى أن يقدم. ففعلوا. وحمَّلوا معي ألفَيْ دينار، وثلاثين ألف درهم نَقْرَة، ومائتي ثوب ديباج، وعشرين منًّا عُود، وعشرة أَمْناء كافور، وألف مثقال عنْبر، وألف مثقال مسك، وثلاثمائة صحن صيني.
ووقّع بإقطاع وكيل الخدمة خمسة آلاف دينار من معاملة البصرة، وأن يُسلَّم إليه ثلاثة آلاف قوصرة تمر كل سنة. وأُفرِد عميد الرؤساء أبو طالب بن أيّوب بخمسمائة دينار وعشرة آلاف درهم، وعشرة أثواب، وعُدنا إلى بغداد، فَرُسِم لي الخروج إلى جلال الدولة، فأجريت معه حديث اللّقب، وما سأله الملك. فثقل عليه ذلك، واقتضى وقوف الأمر.
واستمرّ تأخُّر الأمطار، واستسقوا مرَّتين وما سُقوا، وكان الذين خرجوا إلى الاستسقاء عددا قليلا، وأجدَبت الأرض، وهلكت المواشي، وتلِفَ أكثر الثمار.
وكبس رئيس العيّارين البُرْجميّ خانًا فأخذ ما فيه، فقوتلَ، فقتل جماعة، وكان يأخذ كلّ مُصَعِّدٍ ومُنحَدِر، وكبسَ دارًا وأخذ ما فيها وأحرقها. هذا والعسكر ببغداد.
واجتمع الخدم ومنعوا من الخطبة للخليفة لأجل تأخُّر رسْم البيعة، فلم تُصَلّ الْجُمُعة، ثمّ تلطف في الأمر في الجمعة الآتية. -[347]-
وفيها حلف الملكُ للخليفةِ يمينًا حضرها المرتضي وقاضي القضاة، وركب الوزير أبو القاسم ابن المسلمة من الغد، فحضر عند الخليفة هو والمرتضى والقاضي، فحلف للملك وهي:
" أقسمَ عبد الله أبو جعفر القائم بأمر الله باللهِ الّذي لا إله إلا هو الطالب الغالب المدرِك المهلِك، عالم السِّر والعلانية، وحق رسول الله صلى الله عليه سلم، وحق القرآن العظيم - لأُقِيمنَّ لركن الدّين جلالَ الدّولة أبي طاهر ابن بهاء الدّولة أبي نصر على إخلاص النّيّة والصّفاء بما يُصْلِح حاله، ويحفظ عليه مكانه. ولأكوننَّ له على أفضل ما يؤثر من حراسته، ولوزير الوزراء أبي القاسم وسائر حاشيته، وإقراره على رُتْبَته. له بذلك عليَّ عهدُ الله وميثَاقُه، وما أخذ على ملائكته المُقرَّبين، وأنبيائه المرسَلين، والله يشهد عليَّ، وهذه اليمين مني والنية فيها بنية جلال الدولة ".
وفي جُمَادى الأولى عند تصويب الشّمس للغروب انقض كوكب كبير كثير الضوء.
وزاد شرُّ العيّارين حتّى ولي ابن النّسويّ فردعهم وانكفوا.
وهاجت ريح عظيمة ثلاثة أيّام احتجبت منها السماء والشمس، ورمت ترابا أحمر ورملا.
وغَلَت الأسعار، وتَلِفت غلات الموصل، ولم تردّ البذار، وكذلك الأهواز وواسط.
ووصلت الأخبار عن الإحساء وتلك النواحي بأنّ الأقوات عدِمت، واضطّرت الأعراب إلى أكل مواشيهم ثمّ أولادهم، حتّى كان الواحد يعاوض بولده ولدَ غيره لئلا تدركه رقة إذا ذبحه.
وفي شوّال انقضّ ليلة الإثنين كوكب أضاءت منه الأرض، وارتاع له العالم، وكان في شكل التّرس، ولم يزل يقلّ حتّى اضمحلّ.
وفي شوّال سكر جلال الدولة ونزل من داره في سُميريه متنكّرًا إلى دار الخلافة، ومعه ثلاثة، وصعِد إلى بستان، ورمى بعض مغنياته القصب، ودخل منه، وجلس تحت شجرة، واستدعى نبيذًا يشربه، وزمّر الزَّامر.
فعرف الخليفة ذلك، فشُق عليه وأزعجه. ثمّ خرج إليه القاضي ابن أبي موسى، والحاجب أبو -[348]- منصور بن بكران، فحدّثاه ووقفا بين يديه وقالا: قد سُرَّ الخليفة بقُرب مولانا وانبساطه، وأمّا النّبيذ والزّمْر فلا ينبغي. فلم يقبل ولا امتنع، وقال: قُلْ لأمير المؤمنين: أنا عبدك، وقد حصل وزيري أبو سعد في دارك، ووقف أمري بذلك فأُريد أتسلَّمه. وأخذوا يدارونه حتّى نزل في زَبْزَبه، وأُصعد إلى دار المملكة. واجتمع خلق من الناس على دجلة.
فلمّا كان من غدٍ استدعى الخليفة المختصّ أبا غانم، وأبا الوفاء القائد وقال: إنّا قد عرفنا ما جرى أمس، وإنّه أمرٌ زاد عن الحدّ وتناهى في القُبْح واحتملناه، وكان الأوْلى لجلال الدّولة أن يتنزّه عن فِعْله وينزّهنا عن مثله - في كلام طويل - فإن سلك معنا الطّريقة المُثْلى، وإلا فارقْنا هذا البلد ودَبَّرنا أمرنا.
فقبّلا الأرض ومضيا إلى الملك، فركب بعد ذلك في زبزبه، وأشعر الخليفة بحضوره للاعتذار، فنزل إليه عميد الرّؤساء وخدم، وقال: تذكّر حضوري للخدمة واعتذاري. فرجع الجواب بقبول العذر. ثم مضى إلى الميدان ولعب بالصولجان.
ولم يحج ركب العراق لفساد الطريق، وورد من مصر كِسْوة الكعبة، وأموال للصدقة وصلات لأمير مكة.
وورد الخبر بوباءٍ عظيم بالهند وغَزْنَة وأصبهان وجرجان والري، وأن ذلك قد زاد على مجاري العادة. وخرج من أصبهان فيه أربعون ألف جنازة، ومات بالموصل بالجدري أربعة آلاف صبي.
وخرجت السّنة ومملكة جلال الدولة مشتملة على ما بين الحضرة وواسط والبطيحة، وليس له من جميع ذلك إلا إقامة الاسم، وأما الوزارة فخالية عن آمر فيها.
وجاء إلى أصبهان مسعود بن محمود بن سُبكتكين فنهب البلد، وقتل عالمًا لا يُحصى.