-سنة إحدى وأربعمائة

فيها ورد الخبر أنّ أبا المَنِيع قرواش بْن مُقَلّد جمع أهل المَوْصِل وأظهر عندهم طاعة الحاكم، وعرفهم بما عزم عليه مِن إقامة الدّعوة لَهُ، ودعاهم إلى ذَلِكَ، فأجابوه في الظّاهر، وذلك في المحرَّم، فأعطى الخطيبَ نسخة ما خطب بِهِ، فكانت: " الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، وله الحمد الّذي انجلت بنوره غَمَرات الغضب، وانقهرت بقُدرته أركان النَّصْب، وأطلع بنوره شمس الحقّ من الغرب، الّذي محا بعدله جور الظَّلمة، وقصم بقُوته ظهر الفِتْنة، فعاد الأمر إلى نصابه، والحقّ إلى أربابه، البائن بذاته المتفرد بصفاته، الظاهر بآياته، المتوحد بدلالاته، لم تفنه الأوقات فتسبقه الأزمنة، ولم يشْبه الصُّور فتحويه الأمكنة، ولم تره العيون فتصفه الألسنة " إلى أن قَالَ: بعد الصّلاة عَلَى الرّسول، " وعلى أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين، أساسُ الفضل والرحمة، وعماد العِلْم والحكمة، وأصل الشجرة الكرام البررة النابتة في الأرومة المقدسة المطهرة، وعلى أغصانه البواسق من تِلْكَ الشجرة ".

وقال في الخطبة الثانية بعد الصلاة على محمد: " اللهم صل على ولّيك الأكبر عليّ بن أَبِي طَالِب أَبِي الأئمّة الرّاشدين المَهْديين، اللّهم صلّ عَلَى السَّبْطَيْن الطَّاهرين الحسن والحسين، اللّهم صلّ عَلَى الإمام المهديّ بك والّذي بلّغ بأمرك وأظهر حُجتَّك، ونهض بالعدل في بلادك هاديا لعبادك، اللهم صلّ عَلَى القائم بأمرك، والمنصور بنصرك اللذين بذلا نفوسهما في رضاك وجاهدا أعداءك، وصلّ عَلَى المُعِزّ لدينك، المجاهد في سبيلك، المُظْهِر لآياتك الحقية، والحجة الجلية، اللهم وصل على العزيز بك، الذي تهذبت به البلاد، اللهم اجعل نوامي صلواتك على سيّدنا ومولانا إمام الزّمان وحصن الإيمان، وصاحب الدّعوة العلّوية والمِلّة النَّبويّة، عبدك وولّيك المنصور أبي علي -[8]- الحاكم بأمر الله، أمير المؤمنين، كما صلّيت على آبائه الراشدين، اللهم أعنه على ما ولّيته، واحفظ له ما اسْتَرْعَيْتَهُ، وانصر جيوشه وأعلامه ".

وكان السّبب أنّ رُسُل الحاكم وكتبه تكررت إلى قرواش، فاستمالته وأفسدت نيّته. ثم انحدر إلى الأنبار، فأمر الخطيب بهذه الخطبة، فهرب الخطيب، فسار قرواش إلى الكوفة، فأقام بها الدّعوة في ثاني ربيع الأوّل، وأقيمت بالمدائن، وأبدى قرواش صفحة الخلاف، وعاث، فأنزعج القادُر بالله، وكاتبَ بهاء الدّولة، وأرسل في الرّسْليّة أبا بَكْر محمد بْن الطّيّب الباقلّانيّ، وحمّله قولًا طويلًا، فقال: إنّ عندنا أكثر ممّا عند أمَير المؤمنين، وقد كاتبنا أبا عليّ - يعني عميد الجيوش - وأمرنا بإطلاق مائة ألف دينار يستعين بها عَلَى نفقة العسكر، وإن دَعَت الحاجة إلى مسيرنا سِرنْا. ثمّ نفذ إلى قرواش في ذَلِكَ، فأعتذر ووثّق مِن نفسه في إزالة ذَلِكَ، وأعاد الخطبة للقادر، وكان الحاكم قد وجّه إلى قرواش هدايا بثلاثين ألف دينار، فسار الرَّسُول فتلقّاه قَطع الخطبة في الرَّقة فردَّ.

وفي ربيع الأول منها عُزِل عَنْ إمرة دمشق منير بالقائد مظفر، فولي أشهرا، وعُزِل بالقائد بدر العطار، ثم عُزِل بدر في أواخر العام أيضًا، وولي القائد منتجب الدّولة لؤلؤ، وكلّهم من جهة الحاكم العُبَيْديّ. ثمّ قِدم دمشقَ أبو المطاع بْن حمدان متوليا عليها من مصر يوم النَّحْر.

وفي صفر أنقضّ وقت العصر كوكب مِن الجانب الغربيّ إلى سَمْتِ دار الخلافة، لم يُرَ أعظم منه.

وفي رمضان بلغت زيادة دِجْلة إحدى وعشرين ذراعًا وثُلثا، ودخل الماء إلى أكثر الدُّور الشّاطئية وباب التِّبْن وباب الشعير وغرقت القُرى.

وفيها خرج أبو الفتح الحَسَن بْن جعفر العلوي، ودعا إلى نفسه، وتلقَّب بالراشد بالله. وكان حاكمًا عَلَى مكّة والحجاز وكثير من الشّام، فإنّ الحاكم بعث أمير الأمراء يازوخ نائبا إلى الشّام، فسار بأمواله وحُرمه، فلقِيَهم في غزَّة مفرّج بْن جرّاح، فحاز جميع ما معهم وقتل يازوخ، وسار مفرّج إلى الرملة -[9]- فنهبها، وأقام بها الدّعوة للراشد بالله، وضرب السّكّة لَهُ، واستحوذت العربُ عَلَى الشّام من الفَرَما إلى طبرية، وحاصروا الحصون، ولم يحج ركْب من العراق.

وفيها تُوُفّي عميد الجيوش أبو عليّ الحُسين بن أبي جعفر عَنْ إحدى وخمسين سنة، وكان أَبُوهُ من حُجاب الملك عضُد الدّولة، فجعل أبا عليّ برسم خدمة ابنه صمصام الدّولة، فخَدمه وخدَم بعده بهاء الدولة، ثمّ ولّاه بهاء الدّولة تدبير العراق، فقدِم في سنة اثنتين وتسعين، والفِتَن شديدة واللّصوص قد انتشروا ففتك بهم، ثمّ غّرق طائفة، وأبطل ما تعمله الشّيعة يوم عاشوراء وقيل: إنّه أعطي غلامًا له دنانير في صينية، وقال: خُذْها عَلَى يدك وقال: سر من النَّجمي إلى الماصر الأعلى، فإن عرض لك معترض فدعْه يأخذها، وأعرف الموضع. فجاء نصف الّليل فقال: قد مشيتُ البلدَ كلّه، فلم يلْقني أحد. ودخل مرة عليه الرُّخَّجي، وأحضر مالًا كثيرًا، وقال: مات نصرانيّ مصري ولا وارث له. فقال: يترك هذا المال، فإنْ حضر وارث وإلا أُخِذ. فقال الرُّخَّجي: فيحمل إلى خزانة مولانا إلى أن يتيقن الحال، فقال: لا يجوز ذَلِكَ. ثمّ جاء أخو الميّت فأخذ التّركة.

وكان مَعَ هيبته الشّديدة عادلا، ولي العراق ثماني سِنين وسبعة أشهر. وتولّي الشريف الرضيّ أمره ودفنه بمقابر قُرَيْش. وولي بعده العراق فخر الملك. وفيه يَقُولُ الببّغاء الشاعر:

سألتُ زماني: بمن أستغيث؟ ... فقال: استغِثْ بعميد الجيوشِ

فناديتُ: ما لي من حِرْفة فجاوب ... حُوشِيت من ذا وحوشي

رجاؤك إيُّاه يُدْنيك منه ... ولو كنتَ بالصّين أو بالعريشِ

نَبَتْ بي داري وفرَّ العبيد ... وأودت ثيابي وبعت فروشي -[10]-

وكنتُ أُلَقَّبُ بالببغاء قديما ... وقد مزق الدهرُ ريشي

وكان غذائي نقي الأرز ... فها أنا مقتنعٌ بالحشيش

وفيها كان القحط الشديد بخراسان لا سيما بَنْيسابور، فهلكَ بنَيْسابور وضواحيها مائة ألف أو يزيدون، وعجزوا عَنْ غسل الأموات وتكفينهم، وأُكِلَتْ الجيف والأرواث ولحوم الآدميّين أكْلا ذريعًا، وقُبِض عَلَى أقوام بلا عدد كانوا يغتالون بني آدم ويأكلونهم، وفي ذلك يقول أبو نصر الراهبي:

قد أصبح الناسُ في بلا ... ء وفي غلاء تداولوه

من يلزم البيت مات جوعًا ... أو يشهد النّاسَ يأكلوه

وقد أنفق محمود بْن سُبُكْتكين في هذا القَحْط أموالًا لا تُحصَى حتّى أحيا النّاس، وجاء الغيث.

وفيها وقبلها جرت بالأندلس فتنة عظيمة، وبُذِلَ السّيف بقُرْطُبة، وقُتل خلقٌ كثير وتَمَّ ما لا يعبرَّ عَنْهُ، سُقناه في تراجم الأمراء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015