حجّ بالعراقيين جَعْفَر بْن شعيب السّلار، ولحقهم عَطَش فِي طريقهم، فهلك خلْق كثير.
وفي المحرم قتل الحاكم بمصر جماعة من الْأعيان صبَرًا.
وفيها قُتِل المنتصر أَبُو إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل بْن نوح بْن نصر بن نوح السّاماني، وكان قد أُسِر أخوه عَبْد الملك، كما ذكرنا فِي سنة تسعٍ وثمانين. واستولى عَلَى ما وراء النهر إيلك خان، وتمكن وقبض عَلَى أَبِي إِبْرَاهِيم -[688]- هذا، وعلى أخيه عَبْد الملك، وعلى نوح بْن منصور الرضيّ، وعلى أعمامهم أَبِي زكريّا، وأَبِي سُلَيْمَان، فتحيّل المنتصر وهرب من السجن فِي زيّ امْرَأَة كانت تنتابهم لمصالحهم، واختفى أيامًا عند عجوز، وذهب إلى خُوَارِزْم، فتلاحق بِهِ من نَدَّ وغار من بقايا الدّولة السّامانية، حتى اجتمع شَمْلُه، وكثف خيله ورِجْله، وأغار بعض أمرائه عَلَى بُخَارَى، وبيتوا بضعة عشر قائدًا من القواد الخانية، وحملوا فِي وثاقٍ إلى خُوَارِزْم، وانهزم من بقي من قوّاد إيلك خان، وعاد المنتصر إلى بخارى، وفرح به النّاس، فجمع إيلك جيوشه، وتكاثفت أيضًا جموع المنتصر، وقصد نيسابُور، وحارب أميرها نصر بْن سُبُكْتِكين أخا محمود، فهزمه، وأخذ نيسابُور، فانزعج لذلك السّلطان محمود، وطوى المفاوز، حتى وافى نيسابُور، فتقهقر عَنْهَا المنتصر إلى أَسْفِرايين، وجبى الخراج، وقدم لَهُ شمس المعالي خيلا وجمالا وبغالا، وألف ألف دِرْهَم، وثلاثين ألف دينار، مُدارةً عَنْ جُرْجَان.
ثم إن المنتصر عاد إلى نيسابور، فتحيز عنها أخو محمود، وجبى المنتصر منها الْأموال، ثم التقى هُوَ وأخو محمود، فكانت بينهما ملحمة هائلة، فكانت النصرة لصاحب الجيش نصر بْن سُبُكْتِكين، وانهزم المنتصر، فجاء إلى جُرْجَان، فدفعه عَنْهَا شمس المعالي، ثم التقى المنتصر أيضًا هُوَ والسُّبُكْتِكينيّة بظاهر سَرْخَس، وقُتِل خلْقٌ من الفريقين، وانهزم جَمْعُ المنتصر، وقُتِل جماعة من قوّاده، فسار المنتصر يعتسف المهالك، فانتبذ الركض بِهِ إلى محالّ الْأتراك الغُزِّيَّة، ولهم مَيْل إلى آل سامان، فأخذتهم المَذَمَّة من خُذْلانه، وحرّكتهم الحَمِيَّة لعونه فِي سنة ثلاث وتسعين، وقصدوا إيلك الخان، وحاربوه، ثم خافهم المنتصر وفارقهم، وراسل السُّلطانَ محمود بْن سُبُكْتِكين يذكِّره بحقوق سَلَفِه عَلَيْهِ، فأكرم محمود الرسول، وتماثل حال المنتصر، وجرت لَهُ أحوال وأمور وحروب عديدة.
وكان موصوفًا بالدَّهاء والشّجاعة المُفْرِطة، ثم قام معه فتيان أهل سمَرْقَنْد، وتراجع أمره، فسمع الخان باحتداد شوكته واشتداد وطْأَته، -[689]- فزحف إليه والتقاه في شعبان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وانكسر الخان إيلك، ثم جمع وحَشَد وكَرَّ لطلب الثّأر، فالتقوا، فخامر خمسة آلاف من جيش المنتصر، وانحازوا إلى إيلك، فاضطّر المنتصر إلى الانهزام، واستحر القتْلُ بجيشه، وبقي المنتصر أينما قصد، شُهِرَت عَلَيْهِ السّيوف وكَثُر أضداده، ودَلف إِلَيْهِ صاحب الجيش ابن سبكتكين، ووالي سرخس، ووالي طُوس. وحثّوا الظَّهْر فِي طلبه، ففاتهم إلى بِسطام، فرماه شمس المعالي بنحو ألفين من الْأكراد والشاهجانية، فأزعجوه عَنْهَا حتى ضاقت عَلَيْهِ المسالك، فتلقّاه ابن سرخك الساماني، بكتاب يخدعه فيه، فانفعل له طمعًا فِي وفائه، فبيتتهُ خَيْل إيلك خان بطرف خُرَاسان، فطاردهم، ثم ولاهم ظهره، فأسروا أخويه، والتجأ إلى ابن بهيج الأعرابي، فأخفر حق مقدمه، وروى الأرض من دمه، فكأنما عناه أَبُو تمام بقوله:
فتًى مات بين الطَّعْن والضَّرْب مِيتَةً ... تقوم مقامَ النَّصْر إذ فاته النَّصْرُ
فأثبتَ فِي مُسْتَنْقَع الموتِ رِجْلَه ... وقَالَ لها من دون أَخْمَصِك الحَشْرُ
غدا غدوة الحمد نسج رِدائه ... فلم ينصرف إلا وأكفانه الْأجْرُ
مضى طاهرَ الْأثواب لم تبق رَوْضَةٌ ... غداةَ ثَوَى إلا اشتهتْ أَنَّها قَبْرُ
عليكَ سلامُ اللَّه وقْفًا فإنّني ... رَأَيْت الكريمَ الحُرَّ لَيْسَ لَهُ عُمْرُ
وانقضت الْأيام السامانيّة، وذلك فِي أوائل سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.