-واقعة حلب من تاريخ علي بن محمد الشِّمْشاطي -[9]-

قال: في ذي القعدة أقبلت الروم فخرجوا من الدروب، فخرج سيف الدولة من حلب، فتقدم إلى عَزَاز في أربعة آلاف فارس وراجل. ثم تيقن أنه لا طاقة له بلقاء الرُّوم لكثرتهم، فَرَدَّ إلى حلب، وخَيَّم بظاهرها، ليكون المصاف هناك. ثم جاءه الخبر بأن الروم مالوا نحو العُمق، فَجَهَّز فتاه نجا في ثلاثة آلاف لقصدهم. ثم لم يصبر سيف الدولة، فسار بعد الظهر بنفسه، ونادى في الرعية: مَن لحق بالأمير فله دينار. فلما سار فرسخا لقيه بعض العرب، فأخبره أن الروم لم يبرحوا من جِبْرين، وأنهم على أن يُصبِّحوا حلب، فرد إلى حلب، ونزل على نهر قُويق. ثم تحول من الغد فنزل على باب اليهود، وبذل خزائن السلاح للرعية.

وأشرف العدو في ثلاثين ألف فارس، فوقع القتال في أماكن شتى، فلما كان العصر وافى ساقة العدو في أربعين ألف راجل بالرماح، وفيهم ابن الشمشقيق، وامتدت الجيوش على النهر، وأحاطوا بسيف الدولة، فحمل عليهم، فلما ساواهم لوى رأس فرسه وقصد ناحية بالِس، وساق وراءه ابن الشمشقيق في عشرين ألفاً، فأنكى في أصحابه، وانهزمت الرَّعية الذين كانوا على النهر عندما انصرف سلطانهم، وأخذهم السيف، وازدحموا في الأبواب، وتعلق طائفة من السور بالحبال، وقتل منهم فوق الثلاثمائة، وقُتِل من الكبار أبو طالب بن داود بن حمدان وابنه وداود بن علي، وأُسِرَ كاتب سيف الدولة البياضي، وأبو نصر بن حسين بن حَمْدان.

وكان عَسْكر الملاعين ثمانين ألف فارس والسَّواد فلا يُحصى. ثم تقدم من الغد مُنتصر حاجب الدُّمُسْتُق إلى السُّور، وقال: أخرجوا إلينا شيخين تعتمدون عليهما. فخرج شيخان إلى الدُّمُسْتُق فَقَرَّبهما، وقال: إني أحببتُ أن أحقنَ دماءكم، فتخيروا إما أن تشتروا البلد أو تخرجوا عنه بأهلكم، وإنما كان ذلك حيلةً منه، فاستأذَنَاهُ في مشاورةِ النَّاس. فلما كان من الغد أتى الحاجب فقال: ليخرج إلينا عشرة منكم لنعرِف ما عَمِلَ عليه أهلُ البَلَد. وكان رأي أهل البَلَد على الخروج بالأمان، فخرج العشرة وطلبوا الأمان ويدخل القوم. فقال الدُّمُسْتُق: صَحَّ ما بلغني عنكم؟ قالوا: وما هو؟ قال: بلغني أنكم قد أقمتم -[10]- مقاتلتكم في الأزقة مُخْتفين، فإذا خرج الحُرَم والصِّبيان، ودخل أصحابي للنهب اغتالوهم. فقالوا: ليس في البلد من يقاتل. قال: فاحلفوا. فحلفوا له. وإنما أراد أن يعرف صورةَ البَلَد. فحينئذٍ تقدم بجيوشه إلى قبالة السُّور، ولجأ الناس إلى القلعة، ونصبت الرُّوم السلالم على باب أربعين وعند باب اليهود، وصعدوا، فلم يروا مُقاتلة، فنزلوا البَلَد ووضعوا السَّيف، وفتحوا الأبواب، وقُضِي الأمر، وعَمَّ القتلُ والسَّبيُ والحريق طول النهار ومن الغَد، وبقي السُّيف يعمل فيها ستة أيام إلى يوم الأحد لثلاث بقين من ذي القَعِدة. فزحف الدُّمُسْتُق وابن الشمشقيق على القلعة، ودام القتال إلى الظُّهر، فقتل ابن الشمشقيق، من عظمائهم، ونحو مائة وخمسين من الرُّوم. وانصرف الدُّمُسْتُق إلى مُخَيمه، ونودي: من كان معه أسير فليقتله، فقتلوا خَلْقاً كثيراً. ثم عاد إلى القلعة، فإذا طلائع قد أقبلت نحو قِنَّسرين، وكانت نجدة لهم، فتوهم الدُّمُسْتُق أنها نجدة لسيف الدولة، فَتَرَحَّل خائفاً.

وفيها كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنة معاوية ولعنة من غَصَبَ فاطمةَ حقَّها من فَدَك، ومَن منع الحَسَن أن يُدفن مع جدّه، ولعنة من نفي أبا ذَرٍّ. ثم إنّ ذلك مُحي في الليل، فأراد مُعِزُّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير المهلّبي أن يُكتَب مكان ما مُحي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصرّحوا بلعنة معاوية فقط.

وفيها أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من مَنْبِج، وكان واليها.

وفيها وقع بالعراق بأرض الجامدة برد وزن البعض منه رطل ونصف بالعراقي.

وفيها تُوُفّي الوزير أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون المُهَلَّبي من بني المهلّب بن أبي صُفْرة. أقام في وزارة معزّ الدولة ثلاث عشرة سنة. وكان فاضلًا شاعرًا فصيحًا نبيلًا سمْحًا جواداً حليمًا ذا مروءة وأناة. عاش أربعًا وستّين سنة، وصادر معزُّ الدولة أولاده من بعده، ثم استوزر أبا الفضل العبّاس بن الحسن الشيرازي.

وفيها تُوُفّي المحدّث أبو محمد دَعْلَج بن أحمد بن دَعْلَج السِّجِسْتانيّ المعدّل، نزيل بغداد، والشيخ أبو بَكْر مُحَمَّد بْن الْحَسَن بْن زياد النَّقّاش -[11]- المقرئ صاحب " التفسير "، وشيخ وقته أبو بكر محمد بن داود الدُّقّي الدَّينَوَري الزاهد نزيل الشام.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015