فيها جري بين أبي جعفر محمد بن جرير الطِّبَريّ وبين الحنابلة كلام، فحضَر أبو جعفر عند عليّ بن عيسى لمناظرتهم، فلم يحضروا.
وفيها: قدِم مؤنس من حرب صاحب القيروان، فخلع عليه المقتدر، ولقَّبهُ بالمظفَّر. وسار ثمل الخادم من طرسُوس في البحر إلى الإسكندريّة فأخذها من جيش المغاربة.
وفيها: عُزِل تكين عن مصر بأبي قابوس محمود بن حمك، فأقام ثلاثة أيام، ثمّ عُزِل وأُعيد تَكِين.
وفيها: عسكر مؤنس وتَكِين والقوّاد وساروا إلى الفيّوم لحرب عساكر القائم، فرجع القائم إلى إفريقيّة مِن غير قتال، وذلك في أوائل السنة.
وفيها: قُتل الحلاج، وقد مرّ من أخباره في سنة إحدى وثلاث مائة؛ وهو -[17]- أبو عبد الله الحسين بن منصور بن مَحْمِيّ، وقيل: أبو مغيث. وكان محميّ مجوسيًّا فارسيا.
نشأ الحسين بواسط، وقيل: بتستر، وتلمذ لسهل بن عبد الله التستري. ثم قدم بغداد وأخذ عن الجنيد والنوري، وابن عطاء، وأخذ في المجاهدة ولبْس المُسُوح. ثمّ كان في وقتٍ يلبس الأقبية، وفي وقت يلبس المصبوغ. وقيل: كان أبوه حلاجًا. وقيل: أنّه تكلَّم على النّاس، فقيل: هذا حلاج الأسرار. وقيل: إنّه مرَّ على حلاجٍ، فبعثه في شغلٍ له، فلمّا عاد الرجل وجده قد حلجَ كلّ قطنٍ في الدُّكّان.
وقد دخل الهند وأكثر الأسفار وجاور.
قال حَمَدٌ ابْنُه: مولد أبي بطور البيضاء، ومنشأه بِتُسْتَر. ودخل بغداد فكان يلبس المُسُوح، ومرّةً يلبس الدّرّاعة والعمامة، ومرّة القباء، ووقتًا يمشي بخرقتين. وخرجَ إلى عَمْرو بن عثمان المكّيّ وإلى الْجُنَيْد وصحِبَهما. ثمّ وقع بين الجنيد وبين أبي لأجل مسألة، ونسبه الْجُنَيد إلى أنّه مدَّعي. فرجع بأمّي إلى تُسْتَر، فوقع له بها قَبُولٌ. ولم يزل عَمْرو بن عثمان المكّيّ يكتب الكُتُب فيه بالعظائم، حتّى غضب ورمى بزِيّ الصُّوفيّة ولبس قباءٍ، وصحِبَ أبناء الدّنيا. ثمّ سافر عنّا خمس سِنين، بلغ إلى ما وراء النّهر؛ ثمّ رجع إلى فارس، وأخذ يتكلَّم ويدعو إلى الله. وصنَّف لهم، وتكلَّمَ على الخواطر، ولُقِّبَ حلاج الأسرار. ثمّ قدِم الأهواز فحُمِلت إليه، ثم خرج إلى البصرة ثمّ إلى مكّة، ولبس المرقَّعَة، وخرج معه خلْق، فتكلّم فيه أبو يعقوب النهْرَجُوريّ وحسده، فقدِم الأهوازَ، وحمل أمّي وجماعة من رؤسائها إلى بغداد، فبقي بها سنة، ثمّ قصدَ الهند وما وراء النهّر ثانيًا، ودعا إلى الله، وصنَّف لهم كُتُبًا، ثمّ رجع، فكانوا يكاتبونه من الهند بالمُغِيث، ومن بلاد تركستان بالمقيت، ومن خراسان، بالمميز، ومن فارس بأبي عبد الله الزاهد، ومن خوزستان بالشيخ حلاج الأسرار. وكان ببغداد قوم يسمّونه: المصْطَلِم، وبالبصرة المحيّر. ثمّ كثُرت الأقاويل عليه بعد رجوعه من هذه السَّفْرة، فحج وجاوَرَ سنتين وجاء. وتغيّر عمّا كان عليه في الأوّل، واقتنى العقار ببغداد، وبنى دارًا ودعا النّاس إلى معنًى لم أقف عليه، بل على شطر منه، حتّى خرج عليه محمد بن داود وجماعة من أهلِ العلم، وقبَّحوا صورته. ووقع بين عليّ بن عيسى وبينه لأجل نصر القُشُوريّ، ثمّ وقع بينه وبين الشِّبْليّ وغيره من المشايخ، فقيل: هو -[18]- ساحر، وقيل: هو مجنون، وقيل: بل له كرامات، حتّى حبسه السّلطان. روى هذا ابن باكُوَيْه الشِّيرازيّ، قال: أخبرني حمد بن الحلاج، فذكره.
وقال الحسين بن محمد المزاري: سمعت أبا يعقوب النَّهْرَجُوري يقول: دخل الحسين إلى مكّة فجلس في صحن المسجد سنة لَا يبرح من موضعه الّا لطهارةٍ أو طواف، ولا يُبالي بالشّمس ولا بالمطر، ويُفْطر على أربع عضّات مِن قُرصٍ يؤتَى به، ثم إنه سافر إلى الهند، وتعلَّم السِّحر.
وقال أحمد بن يوسف التّنُوخيّ الأزرق: كان الحلاج يدعو كلّ وقتٍ إلى شيء على حسب ما يَسْتَبْله طائفة. أخبرني جماعة من أصحابه أنّه لمّا افتتن النّاس به بالأهواز ونواحيها لِما يُخْرجه لهم من الأطعمة في غير حِينها والدّراهم، ويسمّيها دراهم القدرة. وحدث أبو عليّ الْجُبَّائيّ بذلك فقال: هذه الأشياء يمكن الحِيَل فيها، ولكنْ أدخِلُوه بيتًا من بيوتكم، وكلفوه أن يخرج منه جرزتين شوكا فبلغ الحلاج، فخرج عن الأهواز.
وعن محمد بن يحيى الرّازيّ قال: سمعت عَمْرو بن عثمان المكّيّ يلعن الحلاج ويقول: لو قدرت عليه لقتلته؛ قرأت آية فقال: يمكنني أن أؤلف مثله.
وقال أبو يعقوب الأقطع: زوّجت بنتي من الحلاج، فبانَ لي بعد مُدَيدة أنّه ساحر محتال.
وقال أبو عُمَر بن حَيَّوَيْه: لما أُخْرِج الحلاج لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ وزاحَمْتُ حتّى رأيته، فقال لأصحابه: لَا يَهُولَنَّكُم، فإنّي عائد إليكم بعد شهر.
هذه حكاية صحيحة توضح أنّه مُمَخْرِق حتّى عند القتل.
وقال أبو بكر الصولي: جالسْت الحلاج، فرأيت جاهلًا يتعاقل، وعييًا يتبالغ، وفاجرًا يتزهد. وكان ظاهره أنّه ناسك، فإذا علم أن أهل بلد يرون الاعتزال صار معتزليًا، أو يرون التشيع تشيع، أو يرون التسنن تسنن. وكان يعرف الشعبذة والكيمياء والطب. وكان حينًا ينتقل في البلاد، ويدعي الربوبية، ويقول للواحد من أصحابه: أنت آدم؛ ولذا: أنت نوح؛ ولذا: أنت محمد. ويدعي التناسخ، وأن أرواح الأنبياء انتقلت إليه.
وروى عليّ بن أحمد الحاسب، عن أبيه قال: وجَّهني المعتضد إلى الهند، وكان معنا في السفينة رجل يقال له الحسين بن منصور، فقلت له: فيم جئت؟ قال: أتعلَّم السِّحْر، وأدعو الخلق إلى الله. -[19]-
وقال أبو بكر الصوليّ: قبضَ عليّ بن أحمد الراسبي الأمير على الحلاج وأدخله بغداد وغلاما له على جملين مشهورَيْن سنة إحدى وثلاث مائة. وكتب يذكر أن البينة قامت عنده أنه يدعي الربوبية ويقول بالحلول. فأحضره عليّ بن عيسى الوزير، وأحضر العلماء فناظروه، فأسقط في لفظه، ولم يجده يُحسن من القرآن شيئًا ولا من غيره. ثم حبس مدة.
قال الصولي: وكان يري الجاهل شيئًا من شعبذته، فإذا وثق به دعاه إلى أنه إله، فدعا فيمن دعا أبا سعيد بن نوبخت، فقال له، وكان أقرع: أَنْبِت في مقدم رأسي شعرًا. ثم ترقت به الحال، ودافع عنه نصر الحاجب لأنه قيل إنه سني، وإنما تريد قتله الرافضة. قال: وكان في كتبه: إني مغرق قوم نوح ومهلك عاد وثمود. وكان حامد بن العبّاس الوزير قد وجد لهُ كتبًا فيها أنّه إذا صام الإنسان وواصل ثلاثة أيّام وأخذ في اليوم الرابع ورقات هنْدباء فافطر عليها أغناه عن صوم رمضان. وإذا صلّي في لَيْلَةٍ واحدةٍ رَكْعَتَين طول الليل أغنته عن الصلاة ما بقي. وإذا تصدَّق في يومٍ بجميع ما يملكه أغناه عن الزّكاة. وإذا بنى بيتًا وصامَ أيامًا وطاف به أغناه عن الحجّ. فأحضر حامد القضاة وأحضره وقال: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: هذا كتاب " السُّنَن " للحَسَن البصْريّ. فقال: ألست تدين بما فيه؟ قال: بلى. هذا كتاب أدين الله بما فيه. فقال له أبو عُمَر القاضي: هذا فيه نقض شرائع الإسلام. ثمّ جاراه في الكلام إلى أن قال له أبو عُمَر: يا حلال الدّم، من أيَّ كتابٍ نقلت هذا؟ قال: من كتاب " الإخلاص " للحَسَن البصْريّ. قال: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا الكتاب، وليس فيه شيء من هذا. فقال حامد لأبي عُمَر القاضي: قد أفتيت بأنه حلال الدّم، فضع خطَّك بهذا. فدافعَ ساعةً، فمدّ حامد يده إلى الدَّواة وقدّمها للقاضي وألحّ عليه، فكتب بأنّه حلال الدّم، وكتب الفُقَهاء والعُلماء بذلك خطوطهم، والحلاج يقول: يا قوم، لَا يحلّ لكم إراقةُ دمي. فبعث حامد بخطوطهم إلى المقتدر، وأستأذنه في قتله، فتأخّر عنه الجواب، فخاف أن يبدو للمقتدر فيه رأي لِما قد استمال من الخواصّ بزُهْده وتعبُّده في الحبْس، فنفَّذ إلي المقتدر أنّه قد ذاع كُفْره وادّعاؤه الرُّبوبيّة، وإنْ لم يقتل افتتن الناس، وتجرأ قومُ على الله تعالى وَالرُّسُلِ. فأذِن المقتدر في قتله. فطلب حامدُ صاحبَ الشرطة محمد بن عبد الصَّمد، وأمره أن يضربه ألف سَوط، فإنْ ماتّ وإلّا يقطع يديه ورِجْليه. -[20]-
فلمّا كان يوم الثلاثاء لستِّ بقين من ذي القعدة أُحضِر الحلاج مقيَّدًا إلى باب الطّاق وهو يتبختر بقيده ويقول:
حبيبي غير منسوب ... إلى شيء من الحيفِ
سقاني مثل ما يشربُ ... فعلَ الضيف بالضيف
فلما دارت الكاسُ ... دعا بالنطع والسيف
كذا من يشرب الراح ... مع التنين في الصيف
فضُرب ألف سوط، ثم قطعت يده ورجله، ثم حز رأسه وأحرقت جثته.
وذكر ابن حوقل قال: ظهر من إقليم فارس الحسين بن منصور الحلاج، ينتحل الشك والتصوف، فما زال يترقى طبقا عن طبق حتى آل به الحال إلى أن زعم أنه من هذب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال الصالحة قلبه، وصبر على مفارقة اللذات، ومنع نفسه عن الشهوات يترق في درج المصافاة حتى يصفوا عن البشرية طبعُه، فإذا صفى حلّ فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى ابن مريم عليه السّلام، فيصير مطاعًا، يقول للشيء: كن فيكون فكان الحلاج يتعاطى ذلك، ويدعو إلى نفسه، حتّى استمال جماعة من الوزراء والأمراء وملوك الجزيرة والجبال والعامة.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: قد جمعت كتابًا سمّيته " القاطع لِمُحَال اللجاج بحال الحلاج "، وقال: قد كان هذا الرجل يتكلم بكلام الصُّوفيّة فتندر له كلمات حسان، ثم يخطلها بأشياء لا تجوز. وكذلك أشعاره، قال: فمنها:
سبحان من أظهر ناسوتُهُ ... سِرَّ سَنا لاهُوتِه الثّاقبِ
ثمّ بدا في خلقِه ظاهرًا ... في صورة الآكل والشارب
حتّى لقد عايَنَهُ خَلْقُهُ ... كَلَحْظَةِ الحاجِبِ بالحاجِبِ
قال: ولمّا حبس ببغداد استغوى جماعةً، فكانوا يستشفون ببوله، ويقولون: إنّه يُحيي الموتى.
وقال ثابت بن سِنان: انتهى إلى حامد بن العبّاس في وزارته أمرُ الحلاج، وأنّه قد موَّه على جماعةٍ من الخَدَم والحشم وأصحاب المقتدر -[21]- وعلى خدم نصر ابن الحاجب بأنّه يُحْيِي الموتى، وأنّ الْجِنّ يخدمونه ويُحْضرون إليه ما يريد، وأنّ حَمْد بن محمد الكاتب قال: إنّه مرض فشربَ بَوْلَه، فعُوفي، وكان محبوسًا بدار الخلافة.
وَسُعِيَ إلى حامد برجل يُعرف بالسّمّريّ وبجماعة، فقبض عليهم وناظرهم، فاعترفوا أنّ الحلاج إله وأنّه يُحْيِي الموتى. ووافقوا الحلاج وكاشفوه فأنكر. وكانت ابنة السمّريّ صاحب الحلاج قد أقامت عنده في دار السّلطان مدّة، وكانت عاقلة حسنة العبارة. فدعاها حامد فسألها عن أمره فقالت: قال لي يومًا: قد زوّجْتُك من سليمان ابني وهو بنَيْسابور، وليس يخلو أن يقع بين المرأة وزوجها خلاف، فإنْ جرى منه ما تكرهينه، فصُومي يومك، واصعدي آخر النّهار إلى السطح، وقومي على الرماد، وأَفْطري على المِلْح، واذكري ما أنكرته منه، فإنّي أسمع وأرى. قالت: وكنتُ نائمةً لَيْلَةٍ وهو قريب منّي، وابنته عندي، فما أحسست به إلّا وقد غشيَني، فانتبهتُ فَزعةً فقلت: ما لك؟ قال: إنّما جئت لأوقظك للصّلاة. وقالت لي بنته يومًا: اسجدي له. فقلت: أَوَ يسجد أحدُ لغير الله؟ وهو يسمع كلامنا، فقال: نعم إله في السّماء وإلهُ في الأرض. وذكر القصّة إلى أن قال: فسلّمه حامد الوزير إلى صاحب الشرّطة وقال: اضربه ألف سَوْط، فإنْ ماتَ فحُزّ رأسه وأحرِق جثَّته، وإنْ لم يتلف فاقطع يديه ورجليه، وأحرق جسده، وانصب رأسه على الْجِسْر. فَفُعِلَ به ذلك، وبعث برأسه إلى خُراسان، وطيف به، وأقبل أصحابه يعدّون أربعين يومًا ينتظرون رجوعه. وزعم بعضهم أنّه لم يُقْتَلْ، وأنّ عدوًا له ألقي عليه شبهة. وبعضهم ادَّعى أنّه راه في غد ذلك اليوم في طريق النّهْروان راكبًا على حمار وهو يقول: قولوا لهؤلاء البقر الّذين ظنُّوا أنّني أنا الّذي قتلت ما أنا ذاك.
وأحضر حامد الوزير الورّاقين واستحلفهم أن لَا يبيعوا شيئًا من كُتُب الحلاج ولا يشترونها.
وقيل: إنّ الحلاج لم يتأوه في ضربه.
وقيل: إنّ يده لمّا قطعت كتبَ الدّم على الأرض: الله الله، وليس ذلك بصحيح.
وسائر مشايخ الصُّوفيّة ذمّوا الحلاج إلّا ابن عطاء، ومحمد بن خفيف الشِّيرازيّ، وإبراهيم بن محمد النَّصْراباذيّ، فصححّوا حاله ودوّنوا كلامه.
ثمّ وقفت على الجزء الذي جمعه ابن باكويه في حال الحلاج فقال: -[22]- حدَّثني حمد بن الحلاج، وذكر فصلًا قد تقدم قطعة منه، إلى أن قال: حتى أخذه السّلطان وحبَسه، فذهب نصر القُشُوريّ واستأذن الخليفة أن يبني له بيتًا في الحبْس، فبنى له دارًا صغيرة بجنْب الحبْس، وسدّوا باب الدّار، وعملوا حواليه سُورًا، وفتحوا بابه إلى الحبْس، وكان الناس يدخلون عليه سنة، ثمّ مُنِعوا، فبقي خمسة أشهر لَا يدخل عليه أحد، إلا مرة رأيت أبا العباس بن عطاء الأدميّ دخل عليه بالحيلة. ورأيت مرة أبا عبد الله بن خفيف وأنا برًّا عند والدي باللّيل والنّهار عنده. ثمّ حبسوني معه شهرين، وعُمَري يومئذٍ ثمانية عشر عامًا. فلمّا كانت اللّيلة الّتي أخرج من صبيحتها، قام فصلّى رَكعات، ثمّ لم يزل يقول: مَكْر مَكْر؛ إلى أن مضى أكثر اللّيل. ثمّ سكت طويلًا ثم قال: حقّ، حقّ. ثمّ قام قائمًا، وتغطّى بإزارٍ، واتّزر بمئزر، ومدّ يديه نحو القِبْلة، وأخذ في المُنَاجاة. وكان خادمه حاضرًا، فحفظْنا بعضها. فكان من مناجاته:
نحن شواهدك، نَلُوُذ بَسَنا عِزَّتك، لَتُبْدِي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك، أنتَ الّذي في السّماء إله وفي الأرض إله، يا مُدَهّر الدُّهور، ومصوَّر الصُّوَر، يا من ذَلّتْ له الجواهر، وسجدت له الأعراض، وانعقدت بأمره الأجسام، وتصوَّرت عنده الأحكام. يا مَن تجلّى لما شاء، كما شاء، كيف شاء، مثل التجلّي في المشيئة لأحسن الصُّورة. وفي نسخة: مثل تجليك في مشيئتك كأحسن الصورة. والصّورة: هي الرّوح النّاطقة الّتي أفردته بالعِلم والبيان والقدرة. ثم أوعزت إلى شاهدك الآني في ذاتك الهُويّ اليسير لمّا أردت بدايتي، وأظهرتني عند عقيب كراتي، ودعوت إلى ذاتي بذاتي، وأبديت حقائق علومي ومعجزاتي، صاعدًا في مَعَارجي إلى عُروش أوليائي، عند القول من برياتي، إنّي أحتضر وَأُقْتَلُ وأُصلب وأُحرق، وأُحمل على السافيات الذاريات. وإن لذرة من ينجوج مظَانّ هيكل متجلّياتي لأعظم من الرّاسيات.
ثم أنشأ يقول:
أنْعى إليك نفوسًا طاح شاهدها ... فيما وراء الغيب أو في شاهد القِدَم
أنْعى إليك قلوبًا طالما هَطَلَتْ ... سحائب الوحي فيها أبحر الحكم -[23]-
أنعى إليك لسان الحق مذ زمن ... أوْدَى وتَذْكَارُهُ في الوهْم كالعدم
أنْعى إليك بيانا تستسر له ... أقوال كل فصيح مَقُول فَهم
أنْعى إليك إشارات العُقول معًا ... لم يَبْق مِنْهنّ الّا دارسُ الْعِلْمَ
أنْعى وحقَّك أحلامًا لطائفةٍ ... كانت مطاياهم من مكمد الكِظَمِ
مضى الجميعُ فلا عَيْنُ ولا أثرُ ... مُضِيّ عادٍ وفِقْدَانَ الأُولَى إرَم
وخلفوا معشرًا يَجْدُون لِبستَهم ... أعمى من البَهْم بل أعمى من النَّعَمِ
ثم سكت، فقال خادمه أحمد بن فاتك: أوْصِني يا سيّدي. فقال: هي نفسُك إنّ لم تَشْغلْها شَغَلتْك. فلمّا أصبحنا أُخرج من الحبْس، فرأيته يتبخْترَ في قَيده ويقول:
نديمي غير منسوبِ. . . الأبيات.
ثمّ حُمِل وقُطِّعت يداه ورِجْلاه، بعد أن ضُرِب خمس مائة سوط، ثم صُلب، فسمعته وهو على الْجِذْع يناجي ويقول: إلهي، أصبحتُ في دار الرّغائب أنظر إلى العجائب، إلهي إنّك تتودّد إلى مَن يؤذيك، فكيف لَا تتودّد إلى من يؤذَى فيك. ثمّ رأيتُ أبا بكر الشِّبْليّ وقد تقدَّم تحت الْجِذْع، وصاح بأعلى صوته يقول: أَوَلم أَنْهَكَ عن العالَمين. ثمّ قال له: ما التصوف؟ قال: أهون مرقاة فيه ما ترى. قال: فما أعلاه؟ قال: ليس لك إليه سبيل، ولكنْ سترى غدًا ما يجري، فإنّ في الغَيْب ما شهدتَه وغابَ عنك. فلمّا كان بالعِشيّ جاء الإذْن من الخليفة بأن تُضرب رَقَبَتُه، فقالوا: قد أمسينا ويؤخّر إلى الغَداة. فلمّا أصبحنا أُنْزل وقُدِّم لتُضْرب رقبته، فسمعتُه يصيح ويقول بأعلى صوته: حَسْب الواحِد إفرادُ الواحد له. وقرأ هذه الآية: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}. وهذا آخر كلامه. ثم ضُربت رَقَبَتُه، ولُفَّ في بارية، وصب عليه النِّفْط وأُحْرِق، وحُمل رماده إلى رأس المنارة لتسْفيه الرّياح. وسمعت أحمد بن فاتك تلميذ والدي يقول بعد ثلاثٍ من قتل والدي، قال: رأيتُ ربّ العزّة في المنام، وكأنّي واقفُ بين يديه، قلت: يا رب ما فعل الحسين بن منصور؟ فقال: كاشفته بمعنى، فدعا الخلق إلى نفسه، فأنزلت به ما رأيت.
قال ابن باكُوَيْه: سمعتُ أبا القاسم يوسف بن يعقوب النُّعْمَانيّ يقول: -[24]- سمعت الإمام ابن الإمام أبا بكر محمد بن داود الفقيه الإصبهانيّ يقول: إن كان ما أنزل الله على نبيه حقّ فما يقول الحلاج باطل. وكان شديدًا عليه.
قال: وسمعت أبا الفوارس الجوزقاني بقرميسين يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدّعاوى فلْيَنْظُر إلى الحلاج وما جرى عليه.
سمعتُ عيسى القَزْوينيّ يسأل أبا عبد الله بن خفيف: ما تعتقد في الحلاج؟ فقال: اعتقد فيه أنّه رجل من المسلمين فقط. فقال له: قد كفّره المشايخ وأكثر المسلمين! فقال: إن كان الّذي رأيته منه في الحبْس لم يكن توحيدًا، فليس في الدّنيا توحيد.
قلت: قول ابن خفيف لَا يدّل على شيء، فإنّه لَا يلزم أنّ المبطِل لَا يعمل بالحقّ؛ بل قد يكون سائر عمله حقّ وعلى الحقّ، ويكفر بفِعْلةٍ واحدة، أو بكلمة تحُبِط عمله.
قال ابن باكُوَيْه: سمعت عليّ بن الحسن الفارسيّ بالمَوْصل قال: سمعت أبا بكر بن سَعْدان يقول: قال لي الحسين بن منصور: تؤمن بي، حتّى أبعث إليك بعُصْفورة تطرح من ذرَقها وزن حبّةٍ على كذا مَنًّا من نُحاس، فيصير ذَهَبًا؟ قلت: بل أنت تؤمن بيَ حتّى أبعث إليك بفيلٍ يستلقي، فتصير قوائمه في السّماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته في عينك؟ قال: فبهت وسكت. ثم قال ابن سعدان: هو مُمَوّه مُشَعْوِذ. سمعت عيسى بن بزول القزويني، وسأل أبا عبد الله بن خفيف عن هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوتُهُ
الأبيات الثلاثة، فقال ابن خفيف: على قائلها لعنة الله. فقال عيسى: هي للحلاج. فقال: إن كانت اعتقاده فهو كافر، الّا أنّه لم يصح أنّه له، ربما يكون مَقولًا عليه.
سمعتُ محمد بن عليّ الحضرمي بالنّيل يقول: سمعتُ والدي يقول: كنتُ جالسًا عند الْجُنَيْد، إذ ورد شابُّ حَسَن الوجه، عليه خِرْقتان، فسلّم وجلس ساعةً، ثمّ أقبل عليه الْجُنَيْد فقال: سل ما تريد. فقال: ما الذي باين الخليقة عن رسوم الطَّبْع؟ فقال الْجُنَيْد: أرى في كلامك فضولًا، لِم لَا تسأل -[25]- عمّا في ضميرك من الخروج والتّقدّم على أبناء جنسك؟ فسكت، وسكت الْجُنَيْد ساعةً، ثمّ أشار إلى أبي محمد الجريريّ أنْ قمْ، فقمنا، وتأخّرنا قليلًا، فأقبل الْجُنَيْد يتكلّم عليه، وأقبل هو يعارضه، إلى أن قال: أي خشبة تفسدها؟ فبكى وقام، فتبِعه الجريريّ إلى أن خرج إلى مقبرةٍ وجلس، فقال لي أبو محمد الجريريّ: قلت في نفسي: هو في حدّة شبابه واستوحش منّا، وربّما به فاقة. فقصدتُ صديقًا لي فقلت: اشترِ خُبزا وشِواءً وفالوذج بسُكَّر، واحمله إلى موضع كذا وكذا، مع ثلّجية ماء وخلال، وقليل أشنان. وبادرت إليه، فسلّمت وجلست عنده، وكان قد جعل رأسه بين رُكبتيه، فرفع رأسه وانزعج، وجلس بين يديّ، وأخذتُ أُلاطفه وأداريه إلى أن جاء صديقي. ثمّ قلتُ له: تفضّل. فمدّ يده وأكل قليلًا. ثمّ قلت له: من أين القصد ومن أين الفقير؟ قال: من البيضاء، إلّا أنيّ رُبيت بخوزسْتان والبصرة. فقلت: ما الاسم؟ قال: الحسين بن منصور. وقمتُ وودَّعته، ومضى على هذا خمسُ وأربعون سنة، ثمّ سمعت أنّه صُلِب وفُعِل به ما فُعِل.
وقد ذكره السُّلَميّ في تاريخه، ثمّ قال: فهذه أطراف ممّا قال المشايخ فيه من قبولٍ وردٍ، واللَّه أعلم بما كان عليه. وهو إلى الرّدّ أقرب.
وقد هتك الخطيب حال الحلاج في " تاريخه الكبير "، وشفى وأوضح أنه كان ساحرا مموها سيئ الاعتقاد.