فيها تُوُفِّي: أبو عبد الملك أَحْمَد بن إِبْرَاهِيم البُسْريّ، والمعتضد بالله، وأحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة، وإبراهيم بن أحمد الأغلبي أمير القيروان، وأنس بن السّلم، وجماعة كبار.
وفيها فاض ماء البحر على الساحل، فأخرب البلاد والحصون التي عليه، وَهَذَا لم يعهد.
وفيها ظفر بسرية للقرامطة فأسر جماعة وقائد السرية ابن أبي الفوارس فعذب وقتل.
وفي ربيع الآخر اعتل المُعْتَضِد علّة صعبة، وتماثل، فَقَالَ ابن المعتز:
طار قلبي بجناح الوجيب ... جزعًا من حادثات الخُطوب
وحذارًا من أن يُشاك بسوء ... أسدُ المُلك وسيفُ الحروب
ثم انتكس ومات في الشهر. وقام بعده ولده المُكْتَفِي بالله أبو محمد عَليّ، وليس في الخلفاء من اسمه عَليّ إِلا هو، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وُلد سنة أربعٍ وستين ومائتين، وأُمه تركية. وكان من أحسن الناس.
وَلَمَّا نُقل المُعْتَضِد اجتمعوا في دار العامة، وفيهم مؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، ووصيف، موشكير، والفضل بن راشد، ورشيق، وكان بدر المعتضدي بفارس، فقالوا للقاسم بن عُبَيْد الله الوزير: خُذ البيعة. فَقَالَ: المُعْتَضِد حي، ولا آمن إفاقته، وقد أطلقتُ المال، فيُنكر عَليّ. فقالوا: إن -[662]- عُوفي فنحن المناظرون دونك. وكان في عزْمه أن يزوي الأمر عن المُكْتَفِي، لكن رأى ميلهم إلى المُكْتَفِي، فأخذ له البيعة بعد العصر من يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلةً بقيت من ربيع الآخر. وأحضر أحمدُ بن محمد بن بسطام أولاد الخلفاء: عبد الله بن المعتز، وقصي ابن المؤيد، وعبد العزيز ابن المعتمد، وعبد الله ابن الموفق أبي أحمد، فأخذ عليهم البيعة للمكتفي.
وَتُوُفِّي المُعْتَضِد ليلة الإثنين لثمانٍ بقين من الشهر. وكان المُكْتَفِي بالرقة، فكتب إليه الْقَاسِم بالخلافة، وَأَنَّ في بيوت الأموال عشرة آلاف ألف دينار، ومن الدراهم أضعافها، ومن الجواهر ما قيمته كذلك، ومن الثياب والخيل، وذكر أشياء كثيرة.
وَقِيلَ: إنَّ الجند تحركوا ببغداد عند موت المعتضد، ففرق القاسم فيهم العطاء، فسكنوا.
ووافى المُكْتَفِي بغداد في سابع جُمَادَى الأولى، ومر بدجلة في سمارية، وكان يومًا عظيمًا. وسقط أبو عُمَر القاضي من الزّحمة من الجسر، وأُخرج سالمًا. ونزل المُكْتَفِي بقصر الخلافة، وتكلمت الشعراء، وخلع على الْقَاسِم بن عُبَيْد الله سبْع خِلع، وقلّده سيفًا. وهدم المطامير التي اتخذها أبوه، وصيرها مساجد. وأمر برد البساتين والحوانيت التي أخذها أبوه من النَّاس ليعملها قصرًا. وفرّق أموالا جزيلة. وسار سيرةً جميلة، فأحبه النَّاس ودعوا له. ومات في السجن عَمْرو بن اللَّيْث الصَّفَّار في اليوم الذي دخل فيه المُكْتَفِي بغداد. فَقِيلَ: إنَّ الْقَاسِم الوزير قتله سرًا، خوفًا من إخراجه، فإنه كان محسنًا إلى المُكْتَفِي أيام مقامه بالري.
وفي رجب ورد الخبر إلى بغداد أَنَّ أهل الرَّيِّ كتبوا إلى الأمير محمد بن هارون الذي كان إسْمَاعِيل بن أَحْمَد متولي خُرَاسَان بعثه لقتال العلوي وولاه طَبَرسْتَان، فخلع محمد بن هارون الطاعة، ولبس البياض، وسار إلى الرَّيِّ، وكان واليها أوكرتُمُش قد غشم وظلم، فالتقيا، فهزمه محمد وقتله، وقتل ولديه وقواده، واستولى على الري.
وفي رجب زُلزلت بغداد زلزلةً عظيمة دامت أياماً.
وفيها خُلع على أَحْمَد بن محمد بن بسطام، وأمر على آمد، وديار ربيعة. -[663]-
وفيها هبت ريحٌ عظيمة بالبصرة، قلعت عامة نخلها، ولم يسمع بمثل ذلك.
وفيها خرج بالشام يَحْيَى بن زكرويه القَرْمَطيّ، وجمع الأعراب، فقصد دمشق وبها طُغْج بن جُفّ نائب هارون بن خُمَارَوَيْه، فكانت بينهما حروبٌ، إلى أن قُتل في أول سنة تسعين.
وسبب خروجه أَنَّ زَكْرَوَيْه بن مهرويه القَرْمَطيّ لَمَّا رأى متابعة الجيوش إلى من بسواد الكوفة وضعُف، سعى في استغواء الأعراب الذين بالسواد، فاستجابوا له. وكان طائفة من كلب يخفرون الطريق على السماوة، فيما بين دمشق والكوفة على طريق تدمر. ويحملون الرسل وأمتعة التجار على إبلهم. فأرسل زَكْرَوَيْه أولاده إليهم فبايعوهم، وخالطوهم، وانتسبوا إلى أمير المؤمنين عَليّ، وإلى إسْمَاعِيل بن جعفر بن محمد الصادق، فقبلوهم، فدعوهم إلى رأي القرامطة، فلم يقبل منهم إِلا طائفة، فبايعوهم. وكان المُشار إليه في القرامطة يَحْيَى بن زَكْرَوَيْه أبو القاسم. وذكر لهم أن له بالعراق والشرق مائة ألف تابع، وَأَنَّ ناقته مأمورة، وَأَنَّهُم متى اتبعوها في مسيرها ظفروا، فقصدوا الرصافة، التي هي غربي الفرات، فقتلوا أميرها، وأكثروا الفساد.
وفيها كانت وقعة بين جيش إسْمَاعِيل بن أَحْمَد، وبين محمد بن هارون على باب الرَّيِّ. وكان محمد في مائة ألف، فكانت الدبرة عليه، فانهزم إلى الدَّيلم في ألف رجل، فاستجار بهم.
وفيها قَوِيَت أمور أبي عبد الله الشيعي بالمغرب، فصنع صاحب إفريقية صُنع محمد بن يَعْفُر ملك اليمن، فانسلخ من الإمارة، وأظهر توبةً، ولبس الصُّوف، وردّ المظالم، وخرج إلى الروم غازيًا. فقام بعده ابنه أبو العَبَّاس.
وكان خروج إِبْرَاهِيم بن أَحْمَد صاحب إفريقية منها وركوبه البحر سنة تسعٍ وثمانين، فوصل إلى صقلية، ومنها إلى طبرمين، فافتتحها في شعبان، ثم حاصر كنيسة، فمرض عليها بإسهال، ومات في ذي القِعْدَة. وكانت ولايته ثمانية وعشرين عاماً ونصفا، ودفن بصقلية.
واشتهر أمر أبي عبد الله بأرض كُتامة، وسمي المشرقي لقدومه من المشرق. فكان إِذَا بايعه الواحد قِيلَ: تشرَّق، وتسارع المغاربة إليه. وَلَمَّا استفاضت دعوة المهدي كثُر الطلب عليه من العراق والشام، فسار متنكرًا من سلمية، ثُمَّ إلى الرملة، ثُمَّ مصر، ومعه ولده محمد صبي، وأبو العَبَّاس أخو الداعي -[664]- أبي عبد الله بزي التُّجار. فتوصلوا إلى طرابلُس الغرب. فَلَمَّا وصل المهدي إلى طرابلُس الغرب قدم أبو العَبَّاس أخو الداعي إلى القَيْرُوَان فوصلها، وقد جاءت المكاتبات من مصر بالإنذار بالمهدي وصفته والتوكيد في طلبه، فعُني زيادةُ الله بطلبه، وتقصّى أخباره، فوقع بأبي العَبَّاس، فقرّره فلم يعترف، فحبسه برقّادة. وكتب إلى طرابلُس في طلب المهدي، وكان قد خرج منها قاصدًا أبا عبد الله داعيته، وفات أمره. ثُمَّ علِم في طريقه بحبْس رفيقه، فعدل إلى سِجِلْماسة، وأقام بها يتَّجر، فبلغ زيادة الله أَنَّهُ بسِجِلْماسة، فقبض متوليها على المهدي وابنه. ثُمَّ وقعت الحرب بين زيادة الله وبين أبي عبد الله الداعي، فهزمه أبو عبد الله مرات، وهرب من الجيش أبو العَبَّاس، ثُمَّ مُسك. ثُمَّ سار زيادة الله منهزمًا إلى مصر، ولحق أبو العَبَّاس بأخيه. ثُمَّ سارا في جيشٍ كثيفٍ وطلبا سِجِلْماسة، فخرج اليَسَع متوليها للقتال، فهزمه أبو عبد الله سنة ست وتسعين، كما سيجيء.
وفيها صلى المُكْتَفِي بِالنَّاس يوم النحر بالمُصلّى.
وفيها قتل بدر المعتضدي. وكان المعتضد يحبه. وكان بدر جوادًا كريمًا شجاعًا، وكان يؤثر الْقَاسِم بن عُبَيْد الله الوزير ويتعصب له، فَقَالَ المُعْتَضِد: والله لا قتله غيره. فكان كما قَالَ. وذلك أَنَّ الْقَاسِم همّ بنقل الخلافة عند موت المُعْتَضِد إلى غير ولده، وناظر بدرًا في ذَلِكَ، فامتنع بدر، فَلَمَّا رأى الْقَاسِم ذَلِكَ وعلم أن لا سبيل إلى مخالفة بدر، إِذْ كان المستولي على الأمور، اضطغنها على بدر. وحدث على المُعْتَضِد الموت، وبدر بفارس، فعمل الْقَاسِم على إهلاكه.
وكان بين بدر وبين المُكْتَفِي تباعد في أيام أبيه. فأشار القاسم على المُكْتَفِي أن يكتب إلى بدر بأن يقيم بفارس، ويبعث إليه بالمال، وأن يختار من الولايات ما شاء، ولا يقدم الحضرة. وخوّف المُكْتَفِي منه. فكتب إليه مع يانس المُوفّقي بذلك، وبعث إليه بعشرة آلاف ألف درهم. فَلَمَّا وصل إلى بدر فكّر وخاف لبعده من مكر القاسم. فكتب إلى المكتفي يقول: لا بد من المصير إلى الحضرة، وأن أشاهد مولاي. فَقَالَ الْقَاسِم له: قد جاهرك بالعصيان، ولا آمنه عليك. وكاتب الْقَاسِم الأمراء الذين مع بدر بالمصير إلى باب الخليفة. فأوقفوا بدرًا على الكُتب وقالوا: قُمْ معنا حَتَّى نجمع بينك وبين الخليفة فَقَالَ: قد كتبت إليه، وأنا منتظر جوابه. ففارقوه ووصلوا إلى بغداد.
وجاء بدر فنزل واسطًا. فندب الْقَاسِم أبا حازم القاضي وَقَالَ: اذهب إلى بدرٍ برسالة أمير المؤمنين بالأمان والعُهود. فامتنع، وكان وَرعًا، وَقَالَ: لِمَ -[665]- أؤدي عن الخليفة رسالة لم اسمعها منه؟ قَالَ: أما تقنع بقولي؟ قَالَ: في مثل هَذَا ما يكفيني.
فندب أبا عُمَر محمد بن يوسف القاضي، فأجاب مسرعًا، وانحدر إلى واسط، فاجتمع ببدر، وأعطاه الأيمان المُغلّظة عن المكتفي، فنزل بدر في طيار، وترك أصحابه بواسط ليلحقوه في البَرّ. فبينا هُوَ يسير، إِذْ تلقاه لؤلؤ غلام الْقَاسِم في جماعةٍ، فنقلوا القاضي إلى طيار آخر، وأصعدوا بدراً إلى جزيرة. فلما عرف بدر أَنَّهُم قاتلوه قَالَ: دعُوني أصلّي ركعتين وأُوصي، فتركوه؛ فأوصى بعتق أرقابه، وصدقة ما يملك، وذبحوه في الرّكعة الثانية، في ليلة الجمعة السابعة والعشرين من شهر رمضان، وقدموا برأسه على المكتفي، فسجد.
وذمّ النَّاس أبا عُمَر القاضي وقالوا: هُوَ غر بدرا؛ وندم القاضي غاية الندم. وقال شاعر:
قل لقاضي مدينة المنصور ... بمَ أحللت أخذ رأس الأمير؟
بعد إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأمان في منشور
أين أيمانك التي شهد الل ... هـ على أنها يمينُ فُجور
أَنَّ كفّيكَ لا تفارق كفي ... هـ إلى أن يرى مَلِيكَ السرير
يا قليل الحياءٍ يا أكذبَ الأ ... مة يا شاهدًا شهادة زور
أيّ أمر ركبت في الجمعة الغ ... راء من خير شهر هذي الشُّهُور
قد مضى من قتلت في رمضا ... ن صائمًا بعد سجدة التعفير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ... أهل بغداد منكم في غرور
في أبيات.