وفيها مَقْتَلُ عثمان رضي الله عنه: خرج المصرّيون وغيرهم على عثمان وصاروا إليه ليخلعوه من الخلافة.
قَالَ إسماعيل بْن أبي خالد: لمّا نزل أهل مصر الجُحْفَة، وَأَتَوْا يعاتبون عثمانَ صعِد عثمانُ المِنْبَر، فَقَالَ: جزاكم اللَّهُ يا أصحاب محمد عنّي شرًّا: أَذَعْتُمُ السَّيِّئةَ وكتمتم الْحَسَنَةَ، وأغريتم بي سُفَهاءَ النّاس، أيُّكُم يذهب إلى هؤلاء القوم فيسألهم مَا نقموا وما يريدون؟ قَالَ ذلك ثلاثًا ولا يُجيبه أحد. فقام عليٌّ فَقَالَ: أنا، فَقَالَ عثمان: أنت أقربهم رَحِمًا، فأتاهم فرحّبوا به، فَقَالَ: مَا الَّذِي نَقَمْتُم عليه؟ قالوا: نَقَمْنا أنّه محا كتاب الله - يعني كونه جمع الأمَّة على مُصْحَفٍ - وحمى الْحِمَى، واستعمل أقرباءه، وأعطى مروان مائة ألف، وتناول أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فردّ عليهم عثمان: أمّا القرآن فمن عند الله، إنّما نهيتكم عن الاختلاف فاقرؤوا عليَّ أيَّ حرفٍ شئتم، وأمّا الْحِمَى فَوَاللَّهِ مَا حميته لإبلي ولا لغنمي، وإنما حميْتُه لإِبل الصَّدَقَةِ، وأمّا -[233]- قولُكم: إنّي أعطيت مروان مائة ألفٍ، فهذا بيتُ مالِهِم فلْيستعملوا عليه من أحبَّوا، وأمّا قولُكم: تناول أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنّما أنا بشر أغضب وأرضى، فمن ادعى قبلي حقا أو مظلمة فها أنا ذا، فإنْ شاء قَوَدًا وإنْ شاء عَفْوًا، فرضي النّاس واصطلحوا ودخلوا المدينة.
وَقَالَ محمد بْن سعد: قالوا: رحل من الكوفة إلى المدينة: الأشتر النَّخَعِيّ - واسمه مالك بْن الحارث -، ويزيد بن مكنف، وثابت بْن قيس، وَكُمَيْلُ بْن زياد، وزيد، وصعصعة ابنا صُوحان، والحارث الأعور، وجُنْدُب بْن زُهَير، وأصفر بْن قيس، يسألون عثمان عزْلَ سعيد بْن العاص عنهم، فرحل سعيد أيضًا إلى عثمان، فوافقهم عنده، فأبى عثمان أن يعزله، فخرج الأشتر من ليلته في نفرٍ، فسرى عشرًا إلى الكوفة واستولى عليها وصعد المنبر، فَقَالَ: هذا سعيد بْن العاص قد أتاكم يزعم أنّ السَّواد بستان لأغَيلِمَةٍ من قريشٍ، والسّواد مساقِطُ رؤوسكم ومراكزُ رِماحِكم، فمن كان يرى لله عليه حقًّا فلْينهض إلى الجَرَعة. فخرج النّاس فعسكروا بالجَرَعَة، فأقبل سعيد حتى نزل العّذَيب، فجهّز الأشتر إليه ألفَ فارسٍ مع يزيد بْن قيس الأرحبيّ، وعبد الله بْن كِنَانَة العبْدِيّ، فَقَالَ: سيروا وأزعِجاه وألْحِقاه بصاحبه، فإنْ أَبَى فاضْرِبا عُنُقَه، فَاتَيَاهُ، فلمّا رأى منهما الجدّ رجع، وصعد الأشترُ منبرَ الكوفة، وَقَالَ: يا أهل الكوفة مَا غضبت إلّا لله ولكم، وقد ولَّيت أبا موسى الأشعريّ صلاتَكم، وحُذَيْفَة بْن اليَمَان فَيْئَكُم، ثمّ نزل، وَقَالَ: يا أبا موسى اصعَدْ، فَقَالَ: مَا كنت لأفعل، ولكنْ هَلُمُّوا فبايعوا لأمير المؤمنين وجدّدوا البيعة في رِقابكم، فأجابه النّاس، وكتب إلى عثمان بما صنع، فأعجب عثمان، فقال عتبة بن الوعل شاعر أهل الكوفة:
تصدق علينا يا ابن عفّان واحتسِبْ ... وَأْمُرْ علينا الأشْعَريَّ لَيالِيا -[234]-
فقال عثمان: نعم وشهورا وسنين إنْ عِشْتُ، وكان الَّذِي صنع أهل الكوفة بسعيد أول وَهْنٍ دخل على عثمان حين اجترئ عليه.
وعن الزُّهْرِيّ، قَالَ: وُلِّيَ عثمان، فعمل ستّ سِنين لَا ينقم عليه النّاس شيئًا، وإنّه لأحبّ إليهم من عُمَر؛ لأنّ عُمَر كان شديدًا عليهم، فلمّا ولِيهَم عثمان لان لهم ووَصَلَهم، ثمّ إنّه توانى في أمرهم، واستعمل أقرباءه وأهل بيته في السّتَ الأواخر، وكتب لمروان بخُمْس مصر أو بخُمْس إفريقية، وآثر أقرباءه بالمال، وتأوّل في ذلك الصِّلة التي أمر الله بها، واتّخذ الأموال، واستسلف من بيت المال، وقال: إن أبا بكر وعمر تركا من ذلك مَا هو لهما، وإنّي أخذته فقسَّمته في أقربائي، فأنكر النّاس عليه ذلك.
قلت: وممّا نقموا عليه أنّه عزل عُمَيْر بْن سعد عَنْ حمص، وكان صالحًا زاهدًا، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عَمْرو بْن العاص عَنْ مصر، وأمَّر ابن أبي سَرْحٍ عليها، ونزع أبا موسى الأشعريّ عَنِ البصرة، وأمرّ عليها عبد الله بْن عامر، ونزع المُغِيرَة بْن شُعْبة عَنِ الكوفة وأمّر عليها سعيد بْن العاص.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ الفضل: حدثنا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: دَعَا عُثْمَانُ نَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ عَمَّارٌ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ وَأُحِبُّ أَنْ تَصْدُقُونِي: نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَيُؤْثِرُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَسَكَتُوا، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ لأَعْطَيْتُهَا بَنِي أُمَيَّةَ حَتّى يَدْخُلُوهَا.
وعن أبي وائل أنّ عبد الرحمن بْن عَوْف كان بينه وبين عثمان كلّام، فأرسل إليه: لِمَ فَرَرْتَ يوم أُحُد وتخلَّفْت عَنْ بدْر وخالفت سنة عمر؟ فأرسل إليه: تخلفت عن بدر لأنّ بنتَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شغلتني بمرضها، وأمّا يوم أُحُد فقد عفا الله عنّي، وأمّا سُنَّةُ عُمَر فَوَاللَّهِ مَا استطعتها أنا ولا أنت.
وقد كان بين علي وعثمان شيءٌ فمشى بينهما العباس، فَقَالَ علي: واللَّهِ لو أمرني أن أخرج من داري لفعلت، فأما أُدَاهِن أنْ لَا يُقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل. -[235]-
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقْعَسِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ ابْنُ السَّوْدَاءِ إِلَى مِصْرَ نَزَلَ عَلَى كِنَانَةَ بْنِ بِشْرٍ مَرَّةً، وَعَلَى سودانَ بْنِ حُمْرَانَ مَرَّةً، وَانْقَطَعَ إلى الغافقي فشجعه الغافقي فتكلم، وَأَطَافَ بِهِ خَالِدُ بْنُ مُلْجِمٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَزِينٍ وَأَشْبَاهٌ لَهُمْ، فَصَرَفَ لَهُمُ الْقَوْلَ فلم يجدهم يجيبون إلى شيء ما يُجِيبُونَ إِلَى الْوَصِيَّةِ، فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِنَابِ الْعَرَبِ وَحِجْرِهِمْ، وَلَسْنَا مِنْ رِجَالِهِ، فَأَرُوهُ أَنَّكُمْ تَزْرَعُونَ، وَلا تَزْرَعُوا الْعَامَ شَيْئًا حَتَّى تَنْكَسِرَ مِصْرُ، فَتَشْكُوهُ إِلَى عُثْمَانَ فَيَعْزِلُهُ عَنْكُمْ، وَنَسْأَلُ مَنْ هو أضعف منه ونخلو بِمَا نُرِيدُ، وَنُظْهِرُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ أَسْرَعَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يتيماً في حجر عثمان، فكبر، وَسَأَلَ عُثْمَانَ الْهِجْرَةَ إِلَى بَعْضِ الأَمْصَارِ، فَخَرَجَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ الْعَمَلَ، فَقَالَ: لَسْتَ هُنَاكَ.
قَالَ: فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ابْنُ السَّوْدَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَرَجُوا وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُم، وَشَكَوْا عَمْرًا وَاسْتَعْفَوْا مِنْهُ، وَكُلَّمَا نَهْنَهَ عُثْمَانُ عَنْ عَمْرٍو قَوْمًا وَسَكَّتَهُمُ انْبَعَثَ آخَرُونَ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَكُلُّهُمْ يَطْلُبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ: أَمَّا عَمْرٌو فَسَنَنْزِعُهُ عَنْكُمْ وَنُقِرُّهُ عَلَى الْحَرْبِ، ثُمَّ وُلِّيَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ خَرَاجَهُمْ، وَتَرَكَ عَمْرًا عَلَى الصَّلاةِ، فَمَشَى فِي ذَلِكَ سودَانُ، وَكِنَانَةُ بْنُ بِشْرٍ، وَخَارِجَةُ، فِيمَا بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بن سعد، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَغْرَوْا بَيْنَهُمَا حَتَّى تَكَاتَبَا عَلَى قَدْرِ مَا أَبْلَغُوا كُلَّ وَاحِدٍ، وَكَتَبَا إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ: إِنَّ خَرَاجِي لا يَسْتَقِيمُ مَا دَامَ عَمْرٌو عَلَى الصَّلاةِ، وَخَرَجُوا فَصَدَّقُوهُ وَاسْتَعْفَوْا مِنْ عَمْرٍو، وَسَأَلُوا ابْنَ أَبِي سَرْحٍ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَمْرٍو: أَنَّهُ لا خَيْرَ لَكَ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَكْرَهُكَ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ جَمَعَ مِصْرَ لابْنِ أَبِي سَرْحٍ. -[236]-
وقد رُوِيَ أنّه كان بين عمّار بْن ياسر، وبين عبّاس بْن عُتْبَة بْن أبي لهب كلام، فضربهما عثمان.
وَقَالَ سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرٍ، وَسَهْلِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قَدِمَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ مِصْرَ وَأَبِي شَاكٍ، فَبَلَغَهُ، فَبَعَثَنِي إِلَيْهِ أَدْعُوهُ، فَقَامَ مَعِي وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ وَسِخَةٌ وَجُبَّةُ فِرَاءَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ إِنْ كُنْتَ فِينَا لَمِنْ أهل الخير، فما الذي بَلَغَنِي عَنْكَ مِنْ سَعْيِكَ فِي فَسَادٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّأْلِيبِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَمَعَكَ عَقْلُكَ أَمْ لا؟! فَأَهْوَى عَمَّارٌ إِلَى عِمَامَتِهِ وَغَضِبَ فَنَزَعَهَا، وَقَالَ: خَلَعْتُ عُثْمَانَ كَمَا خَلَعْتُ عِمَامَتِي هَذِهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون " ويحك حين كثرت شيبتك وَرَقَّ عَظْمُكَ وَنَفِدَ عُمْرُكَ خَلَعْتَ رِبْقَةَ الإِسْلامِ من عنقك وخرجت من الدين عريانا، فَقَامَ عَمَّارٌ مُغْضَبًا مُوَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرَبِّي مِنْ فِتْنَةِ سَعْدٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَلا في الفتنة سقطوا، اللهم زد عُثْمَانَ بِعَفْوِهِ وَحِلْمِهِ عِنْدَكَ دَرَجَاتٍ. حَتَّى خَرَجَ عَمَّارٌ مِنَ الْبَابِ، فَأَقْبَلَ عَلَى سَعْدٍ يَبْكِي حَتَّى اخْضَلَّ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: مَنْ يَأْمَنِ الْفِتْنَةَ يَا بُنَّيَّ لا يَخْرُجَنَّ مِنْكَ مَا سَمِعْتَ منه، فإنه مِنَ الأَمَانَةِ، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ النَّاسُ عَلَيْهِ يَتَنَاوَلُونَهُ، وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَقُّ مَعَ عَمَّارٍ مَا لَمْ تَغَلَّبْ عَلَيْهِ دَلْهَةُ الْكِبَرِ "، فَقَدْ دَلِهَ وَخَرِفَ.
وممّن قام على عثمان محمد بْن أبي بكر الصِّدِّيق، فسئل سالم بْن عبد الله فيما قيل عَنْ سبب خروج محمد، قَالَ: الغضب والطَّمَع، وكان من الإسلام بمكان، وغرَّه أقوامٌ فطمِع، وكانت له دالَّة، ولزِمَهُ حقٌّ، فأخذه عثمان من ظهره.
وحجّ معاوية، فقيل: إنّه لمّا رأى لِينَ عثمانَ واضطّراب أمرِه قَالَ: انطلِقْ معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لَا قِبَل لك به، فإنّ أهل الشام على الطّاعة، فَقَالَ: إنا لَا أبيع جوارَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيءٍ وإنْ كان فيه قطع -[237]- خَيْطِ عُنُقي، قَالَ: فأبعثُ إليك جُنْدًا، قَالَ: أنا أقُتِّر على جيران رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأرزاقَ بجُنْدٍ تُساكِنُهُم! قَالَ: يا أمير المؤمنين واللَّهِ لَتُغْتَالَنَّ ولَتُغْزَيَنَّ. قَالَ: " حَسْبيَ اللَّهُ ونِعْم الوكيل ".
وقد كان أهل مصر بايعوا أشياعهم من أهل الكوفة والبصْرة وجميع من أجابهم، واتَّعَدُوا يومًا حيث شخص أمراؤهم، فلم يستقم لهم ذلك، لكنّ أهل الكوفة ثار فيهم يزيد بْن قيس الأرحبيّ واجتمع عليه ناس، وعلى الحرب يَوْمَئِذٍ القَعْقَاع بن عمرو، فأتاه وأحاط الناس بهم فناشدوهم، وقال يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء، فَوَاللِه إنّي لَسَامعٌ مُطيعٌ، وإنّي لازمٌ لجماعتي إلّا أني أستعفي من إمارة سعيد، ولم يُظْهِرُوا سوى ذلك، واستقبلوا سعيدًا فردّوه من الجَرعَة، واجتمع النّاس على أبي موسى فأقرّه عثمان.
ولمّا رجع الأمراء لم يكن للسبئية سبيل إلى الخروج من الأمصار، فكاتبوا أشياعهم أن يتوافوا بالمدينة لينظروا فيما يريدون، وأظهروا أنّهم يأمرون بالمعروف، وأنّهم يسألون عثمان عَنْ أشياء لتطِيرَ في النَّاس ولتُحَقَّقَ عليه، فَتَوافوا بالمدينة، فأرسل عثمان رجلين من بني مخزوم ومن بني زهرة، فقال: انظرا مَا يريدون، وكانا ممّن ناله من عثمان أدبٌ، فاصطبرا للحقّ ولم يَضْطَغِنا، فلمّا رأوهما باثوهما وأخبروهما، فَقَالَا: من معكم على هذا من أهل المدينة؟ قالوا: ثلاثة، قالا: فكيف تصنعون؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب النَّاس، ثمّ نرجع إليهم ونزعم لهم أنا قد قرّرناه بها، فلم يخرج منها ولم يتُبْ، ثمّ نخرج كأنّنا حُجَّاج حتّى نقدِمَ فنحيط به فنخلَعَهُ، فإنْ أبى قتلناه.
فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وَقَالَ: اللَّهُمَّ سلِّم هؤلاء فإنَّك إنْ لم تسلّمهم شَقُّوا، فامّا عمّار فحمل علي ذنب ابن أبي لهب وعركه بي، -[238]- وأمّا محمد بْن أبي بكر فإنّه أُعْجِب حتّى رأى أنّ الحقوق لَا تلزمه، وأما ابن سارة فإنّه يتعرّض للبلاء.
وأرسل إلى المصْريّين والكوفيّين، ونادى: الصّلاة جامِعَة - وهم عنده في أصل المنبر - فأقبل أصحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم بالأمر، وقام الرجلان، فَقَالَ النّاس: اقتل هؤلاء، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " من دعا إلى نفسه أو إلى أحدٍ، وعلى النَّاس إمامٌ فعليه لعنةُ الله، فاقتلوه "، وَقَالَ عثمان: بل نعفو ونقبل، ونبصِّرُهم بجهدنا، إنّ هؤلاء قالوا: أتمّ الصلاة في السّفر، وكانت لَا تُتَمّ، ألا وإني قدمت بلدا فيه أهلي فأتتمت لهذا.
قالوا: وحميت الحِمَى، وإنّي واللَّهِ مَا حَمَيْتُ إلّا مَا حُمِيَ قبلي، وإني قد وُلِّيتُ وإنّي لَأكْثَرُ العرب بعيرًا وشاءً، فمالي اليوم غير بعيرين لحجتي، أكذاك؟ قالوا: نعم.
قَالَ: وقالوا: كان القرآن كُتُبًا فتركتها إلّا واحدًا، ألا وإنّ القرآنَ واحدٌ جاء من عند واحدٍ، وإنّما أنا في ذلك تابع هؤلاء، أفكذاك؟ قالوا: نعم. وقالوا: إنّي رددت الحَكَمَ وقد سيّره رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطّائف ثمّ ردّه، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيّره وهو ردَّه، أفَكَذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: استعملت الأحداثَ، ولم أستعمِل إلّا مُجْتَمَعًا مَرْضِيًّا، وهؤلاء أهل عملي فسلوهم، وقد ولّي من قبلي أحدثَ منه، وقيل في ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد ممّا قيل لي في استعماله أسامة، أكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إنّي أعطيت ابنَ أبي سَرْح مَا أفاء اللَّهُ عليه، وإنّي إنّما نَفَلْتُهُ خُمْس الخُمْسِ، فكان مائة ألف، وقد نَفَل مثل ذلك أَبُو بكر وعمر، وزعم الجُنْد أنّهم يكرهون ذلك فردَدْتُهُ عليهم، وليس ذلك لهم، أكذاك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبهم فلم يوجب جورا، وأمّا إعطاؤهم، فإنّما أُعطيهم من مالي، ولا أستحلُّ أموالَ المُسْلِمين لنفسي -[239]- ولا لأحدٍ، وكان قد قسم ماله وأرضه في بني أُميَّة، وجعل ولده كبعض من يُعطَى.
قَالَ: ورجع أولئك إلى بلادهم وعفا عنهم، قَالَ: فتكاتبوا وتواعدوا إلى شوَّال، فلمّا كان شوَّال خرجوا كالحُجَّاج حتّى نزلوا بقرب المدينة، فخرج أهل مصر في أربع مائة، وأمراؤهم عبد الرحمن بْن عُدَيْس البَلَوِيّ، وكِنَانة بْن بِشْر اللَّيْثي، وسُودان بْن حُمْران السَّكُونيّ، وقُتَيْرة السَّكُونيّ، ومقدّمهم الغافقيّ بْن حرب الْعَكْي، ومعهم ابن السَّوْداء.
وخرج أهل الكوفة في نحو عدد أهل مصر، فيهم زيد بْن صُوحان العَبْدِيّ، والأشتر النَّخَعِيّ، وزياد بْن النَّضْر الحارثي، وعبد الله بْن الأصَمّ، ومقدّمهم عمرو بْن الأصم.
وخرج أهل البصرة وفيهم حُكَيْم بْن جَبَلَة، وذريح بْن عبّاد العبديّان، وبِشْر بْن شُرَيْح القَيْسي، وابن مُحَرِّش الحنفيّ، وعليهم حُرْقُوص بْن زُهَير السَّعْدِيّ.
فأمّا أهل مصر فكانوا يشتهون عليًّا، وأمّا أهل البصرة، فكانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فكانوا يشتهون الزبير، وخرجوا ولا تشكُّ كلُّ فِرْقةٍ أن أمرها سيتمّ دون الأخرى، حتّى كانوا من المدينة على ثلاثٍ، فتقدّم ناسٌ من أهل البصرة فنزلوا ذا خُشُب، وتقدّم ناسٌ من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، ونزل عامَّتُهم بذي المَرْوَة، ومشى فيما بين أهل البصرة وأهلِ مصر زياد بْن النّضْر، وعبد الله بْن الأصَمّ ليكشفوا خبرَ المدينة، فدخلا فلقيا أزواج النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطلحةً، والزُّبَيْر، وعليًّا، فَقَالَا: إنّما نَؤُمُّ هذا البيتَ، ونستعفي من بعض عمالنا، واستأذنوهم للناس بالدخول، فكلُّهم أَبَى وَنَهَى، فرجعا، فاجتمع من أهل مصر نفرٌ فأتوا عليًّا، -[240]- ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير، وقال كل فريقٍ منهم: إنْ بايعنا صاحِبَنا وإلّا كِدْناهم وفرَّقْنا جماعتَهم، ثمّ كَرَرْنا حتَّى نَبْغَتَهُم، فأتى المصريون عليًّا وهو في عسكر عند أحجار الزَّيت، وقد سرَّح ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلّم على عليٍّ المصريون، وعرضوا له، فصاح بهم وطردهم، وَقَالَ: لقد علم الصّالحون أنّكم ملعونون، فارجِعُوا لَا صَحِبَكُم الله، فانصرفوا، وفعل طلْحة والزُّبَيْر نحو ذلك، فذهب القوم وأظهروا أنهم راجعون إلى بلادهم، فذهب أهلُ المدينة إلى منازلهم، فلمّا ذهب القوم إلى عساكرهم كرّوا بهم، وبغتوا أهل المدينة ودخلوها وضجُّوا بالتّكبير، ونزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وقالوا: من كفَّ يدَه فهو آمن، ولزِمَ النَّاس بيوتهم، فأتى عليّ رضي الله عنه، فَقَالَ: مَا رَدَّكُم بعد ذَهَابِكم؟ قالوا: وجدنا مع بريدٍ كتابًا بقتْلِنا، وَقَالَ الكوفيّون والبصريّون: نحن نمنع إخواننا وننصرهم، فعلم النَّاس أنّ ذلك مكرٌ مِنهم، وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدُّهم، فساروا إليه على الصعب والذلول، وبعث معاوية إليه حبيب بْن مسْلَمَة، وبعث ابنُ أبي سَرْح معاوية بْن حُدَيْج وسار إليه من الكوفة القعْقاع بْن عمرو، فلما كان يوم الجمعة صلّى عثمان بالنّاس وخطب، فَقَالَ: يا هؤلاء الغُزَّاء الله الله، فَوَاللَّهِ إنّ أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فامْحُوا الخطأ بالصواب، فإنّ الله لَا يمحو السّيّءَ إلّا بالحسن، فقام محمد بْن مسْلَمَة، فَقَالَ: أنا أشهد بذلك، فأقعده حُكَيْم بْن جَبَلَة، فقام زيد بن ثابت، فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه من ناحيةٍ أخرى محمد بْن أبي قُتَيْرَة فأقعده وتكلّم فأفظَع، وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا النّاس حتى أخرجوهم، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مَغْشِيًّا عليه، فاحتُمِل وأُدْخِل الدَّار، وكان المصريون لَا يطمعون في أحدٍ من أهل المدينة أن ينصرهم إلّا -[241]- ثلاثة، فإنّهم كانوا يُراسلونهم، وهم: محمد بْن أبي بكر الصِّدِّيق، ومحمد بْن جعفر، وعمّار بْن ياسر، قَالَ: واستقتل أُناس منهم: زيد بْن ثابت، وأبو هُرَيْرَةَ، وسعد بْن مالك، والحسن بْن عليّ، ونهضوا لنُصْرة عثمان، فبعث إليهم يعزم عليهم لمّا انصرفوا، فانصرفوا، وأقبل عليّ حتّى دخل على عثمان هو وطلْحَة والزُّبَيْر يعودونه من صَرْعَتِه، ثُمَّ رجعوا إلى منازلهم.
وَقَالَ عمرو بْن دينار، عَنْ جابر، قَالَ: بَعَثَنَا عثمان خمسين راكبًا، وعلينا محمد بْن مسْلَمَة حتى أتينا ذا خُشُب، فإذا رجلٌ مُعَلِّقٌ المُصْحَف في عُنُقه، وعيناه تَذْرِفان، والسيف بيده وهو يَقُولُ: ألا إنّ هذا - يعني المُصْحَف - يأمرنا أن نضرب بهذا، يعني السيف، على مَا في هذا، يعني المُصْحَف، فَقَالَ محمد بْن مسْلَمَة: اجلس فقد ضربنا بهذا على مَا في هذا قبلك، فجلس فلم يزل يكّلِمهم حتّى رجعوا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ الْمِصْرِييِّنَ لَمَّا أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ عُثْمَانَ دَعَا عُثْمَانُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَارْدُدْهُمْ وَأَعْطِهِمُ الرِّضَا، وَكَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ أَرْبَعَةً: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ، وَسُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وابن البياع، فَأَتَاهُمُ ابْنُ مَسْلَمَةَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَلَمَّا كَانُوا بِالْبُوَيْبِ رَأَوْا جَمَلًا عَلَيْهِ ميسم الصدقة، فأخذوه، فإذا غلام لِعُثْمَانَ، فَفَتَّشُوا مَتَاعَهُ، فَوَجَدُوا قَصَبَةً مِنْ رَصَاصٍ، فِيهَا كَتَابٌ فِي جَوْفِ الإِدَاوَةِ فِي الْمَاءِ: إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنِ افْعَلْ بِفُلانٍ كَذَا، وَبِفُلانٍ كَذَا، مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ شَرَعُوا فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، فَرَجَعَ الْقَوْمِ ثَانِيَةً وَنَازَلُوا عُثْمَانَ وَحَصَرُوهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَنْكَرَ عُثْمَانُ أَنْ يَكُونَ كَتَبَ ذَلِكَ الْكِتَابَ وَقَالَ: فُعِلَ ذَلِكَ بِلا أَمْرِي. -[242]-
وَقَالَ أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أبي سعيد مولى أبي أُسَيْد، فذكر طَرَفًا من الحديث، إلى أن قَالَ: ثُمَّ رجعوا راضين، فبينما هم بالطريق ظفروا برسولٍ إلى عامل مصر أن يصلبهم ويفعل ويفعل، فردّوا إلى المدينة، فأتوا عليًّا، فقالوا: ألم تر إلى عدّو الله، فقُم معنا، قَالَ: واللَّهِ لَا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قَالَ: واللَّهِ مَا كتبت إليكم، فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج عليٌّ من المدينة، فانطلقوا إلى عثمان، فقالوا: أَكَتَبْتَ فينا بكذا؟ فَقَالَ: إنّما هما اثنان، تُقِيمون رجُلَين من المسلمين - يعني شاهدين -، أو يميني بالله الَّذِي لَا إله إلّا هو مَا كتبت ولا علِمْتُ، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم على الخاتم، فقالوا: قد أحَلَّ اللُه دَمَك، ونُقض العهد والميثاق، وحصروه في القصر.
وَقَالَ ابن سيرين: إنّ عثمان بعث إليهم عليًّا، فَقَالَ: تُعْطَوْن كتاب الله وتُعَتَّبُون من كلّ مَا سخِطْتُم، فأقبل معه ناسٌ من وجوههم، فاصطلحوا على خمسٍ: على أنّ المَنْفيَّ يُقْلب، والمحروم يُعْطَى، ويوفَّر الفَيْء، وَيُعْدَلُ في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوّة، كتبوا ذلك في كتاب، وأن يردّوا ابن عامر إلى البصرة وأبا موسى إلى الكوفة.