يديرها ومعه مساعدون وكل منهم يسمى قائدا ولكل ولاية قاض أو قضاة، وعامل المسلمون المسيحيين معاملة سمحة إلى أبعد الحدود، وحافظوا لهم على كنائسهم وقوانينهم الدينية والمدنية ومحاكمهم الخاصة. وكان بكل ولاية مجموعة من الدواوين للإشراف على نظام الحكم، ومن أهمها ديوان المحاسبة القائم على جمع الضرائب. وكانت صقلية ملأى بالزروع وأشجار الزيتون والفاكهة وبالغنم والخيول، وكانت الصناعات مزدهرة بها وخاصة صناعة المنسوجات وصناعة الورق التى انتقلت إليها من القيروان ونقلتها إلى أوربا لتلهم-فيما بعد-جوتنبرج- اختراع الطباعة. ونلتقى فيها ببعض الزهاد مثل القاضيين ميمون وابن أبى محرز وببعض من ينزعون فى نسكهم منزع التصوف مثل أبى القاسم عبد الرحمن البكرى.
وقد فتح النورمان صقلية الإسلامية حربيا وفتحتهم حضاريا، مما جعل ملوكها يكبّون على تعلم العربية ليقرءوا ذخائرها العلمية، وتعلموا من المسلمين شئون الزراعة والصناعة ونظمهم الادارية والديوانية، واتخذوا العربية فى مراسيمهم الحكومية، ومع ذلك لم تكن إقامة المسلمين لشعائرهم الدينية مكفولة وساموهم غير قليل من الخسف والاضطهاد بشهادة ابن جبير لما شاهده فى الجزيرة. ودائما تنزل الثقافة الإسلامية البلدان المفتوحة مع الجيوش العربية، وهو ما حدث سريعا فى صقلية، وكان بعض أبنائها لا يكتفون بما يأخذون عن شيوخها، فكانوا يرحلون-استزادة فى العلم-إلى القيروان ومدّوا رحلتهم أحيانا إلى المشرق، ورحل إليهم بعض العلماء القيروانيين والمشارقة، ويقول ابن حوقل إنه كان فى بلرم وحدها مائتا مسجد وثلاثمائة معلم. وعنيت صقلية بعلوم الأوائل، وكان نصف سكانها مسيحيين وكانوا فئتين: فئة تتكلم اللاتينية وفئة تتكلم الإغريقية، وكان بين قساوستها من يستطيع الترجمة من اللاتينية والإغريقية إلى العربية مما جعل الأمير إبراهيم بن أحمد الأغلبى حين أسس بيت الحكمة فى عاصمته رقادة وعنى فيه بعلوم الأوائل يستعين ببعض الرهبان الصقليين فى ترجمة بعض المصنفات اللاتينية فى العلوم الرياضية إلى العربية، ونظل نسمع عن إتقان بعض أطبائها من العرب للغة الإغريقية وعن نزول بعض متفلسفة الأندلس بها، وتتردد فى الكتب أسماء لبعض من كانوا فيها من الأطباء والرياضيين والمهندسين والفلكيين.
وعنيت صقلية برواية الدواوين وأمهات الكتب الأدبية كما عنيت بالعلوم اللغوية واشتهر من لغوييها ابن البرّ الذى رحل إلى مصر وحمل منها كثيرا من دواوين الشعراء وأسس بها مدرسة لغوية خصبة، ومن أهم تلاميذه ابن مكى صاحب كتاب تثقيف اللسان، ونزلها ابن رشيق، وقاد فيها بكتابه العمدة فى صناعة الشعر ونقده حركة أدبية نقدية مثمرة. ونشطت بصقلية الدراسات الدينية ومن كبار قرائها فى القرن الرابع محمد بن خراسان، ومن كبار مفسريها ابن ظفر، ومن كبار محدثيها عتيق السمنطارى ومن فقهائها المهمين البراذعي