صلاح الدين فى مقامه بالإسكندرية حينذاك. وأخذ يفكر إلى أين يرحل ورأى أن يرحل بعيدا عن مصر وديارها، وصمّم على الرحيل إلى صقلية، وكان قد سمع ممن يلمون بمجالس شيخه السلفى أحيانا من أهل صقلية فى ذهابهم إلى الحج أو فى عودتهم منه-بزعيم المسلمين بجزيرتهم أبى القاسم ابن الحجر بن حمود بن محمد القرشى وكرمه الفياض وفى كتابه الرائع: الزهر الباسم والعرف الباسم فى مديح الأجل أبى القاسم الذى وصف فيه رحلته إلى صقلية وسجل مدائحه فى أبى القاسم بن الحجر نراه يذكر أنه كان قد أرسل إليه مدحة سنة 561 فكان طبيعيا أن يفكر فى النزول بجزيرته فرارا من شاور ورجاله. ونزل فى غرّة شعبان من سنة 563 فى مدينة مسّينى فى الشمال الشرقى من صقلية، وأعجب بموقعها من البحر المتوسط وبمشاهدها الطبيعية ومبانيها الرائقة، مما جعله ينشد فى وصفها قوله:
بلد أعارته الحمامة طوقها … وكساه حلّة ريشه الطاوس
فكأنما الأزهار منه سلافة … وكأنّ ساحات الديار كئوس
ومكث بها فترة قليلة، واتجه غربا إلى العاصمة «بلرم» على الساحل الشمالى للجزيرة، وأحسن استقباله أبو القاسم بن الحجر بن حمود القرشى وظل حفيا به طوال مقامه بالجزيرة، وكان زعيم المسلمين فى الجزيرة، كما أسلفنا، ومن كبار رجالات الدولة لعهد الملك غليولم (غليوم) الثانى وأخذ ابن قلاقس يتعرف عن طريقه إلى بعض رجال الدولة النورمانية، وكأنما كان من واجب من ينزل صقلية من الشعراء المسلمين أن يمتدح مليكها النورمانى وبعض رجال دولته، ومر بنا أن عبد الرحمن بن رمضان المالطى استنفد أكثر شعره فى مديح روجّار وأن ابن بشرون المهدوى التونسى مدح روجار الثانى، وقد مدح ابن قلاقس غليولم (غليوم) الثانى بقصيدة ميمية روتها إحدى مخطوطات الديوان، وله يقول:
كذا فليكن عزم الملوك وقلما … ترى ملكا يأتى بمالك من عزم
وفى القصيدة مبالغات مفرطة فى مديح غليوم، وكان حريا بابن قلاقس أن يأنف من أن يسبغها على ملك مسيحى نهب هو وآباؤه الجزيرة من أهلها المسلمين، ولكن ربما دفعته إلى ذلك ضرورة لبقائه فى الجزيرة دون تعرض له أو للإذن برحيله، ولعل نفس الضرورة هى التى دفعته لمديح جرّدنا أحد رجال الدولة النورمانية ويصفه بأنه وزير، وربما كان قائما على شئون الأمن، وفيه يقول:
وجرّدنا المدائح فاستقرّت … على أوصاف جرّدنا (?) الوزير
فنظّمنا المفاخر كاللآلى … وحلّينا المعالى كالنّحور