التخلف إلى حد البله، فانفرد بالسلطان المطلق فى الحكم، ونقل الأموال المختزنة فى قصر الخلافة إلى داره. وذكر ابن حزم فى رسالته نقط العروس أنه فكر فى عزل الخليفة هشام وتنصيب نفسه خليفة، واستشار نفرا من الفقهاء فاختلفوا بين مؤيدين ومعارضين، فرجع عن ذلك واكتفى بلقبه المنصور. وكان له مجلس معروف فى أحد أيام الأسبوع يجتمع فيه إلى أهل العلم. ورأى أن يتخذ لنفسه جيشا من البربر، فاستقدم منهم آلافا أعانوه فى غزواته الكثيرة ضد البشكنس أصحاب نبارّه والجلالقة أصحاب ليون، ويقال إن غزواته أربت على عشرين غزوة وقيل بل على خمسين، واستولى فى إحداها سنة 377 على برشلونة.
وقد أخطأ ابن أبى عامر فى تكوينه الجيش البربرى الذى أنزله فى قرطبة إذ سيكون له-فيما بعد-أثر سئ فى فتنتها التى طالت سنين متعاقبة انتهت بالقضاء على الدولة الأموية. ودامت دولة ابن أبى عامر ستا وعشرين سنة إذ توفى سنة 392 بمدينة سالم فى الثغر الأوسط للبلاد. وتولى الحجابة بعده لهشام المؤيد ابنه عبد الملك الملقب بالمظفر، ونوّه ابن حيان بحسن ضبطه للأندلس وأن الناس سكنوا منه إلى عفة ونزاهة فأخذوا فى المكاسب والرفاهية وارتفعت نفائس الأعلاق والتحف الثمينة، ورام صهره ابن القطاع الاستيلاء على أزمّة الدولة ففطن له وقتله. وسار بسيرة أبيه فى الجهاد وكثرة الغزو للجلالقة والبشكنس واحتل بنبلونة عاصمة الأخيرين سنة 397 وتوفى فى غزوة كبيرة له سنة 399. وخلفه فى الحجابة أخوه عبد الرحمن الملقب بالناصر وكان نحسا على نفسه وعلى المؤيد هشام وعلى أهل الأندلس، إذ انفتح منه-كما يقول ابن سعيد-باب الفتنة العظمى وفسد الناموس، لما انهمك فيه شربا وزندقة وطعنا فى الدين الحنيف قولا وفعلا، وطلب من هشام أن يوليه العهد بعده ففعل، وخرج لحرب المسيحيين فى الشمال، فثارت عليه الأسرة الأموية، وكان فى طليطلة، فرجع إلى قرطبة ليتدارك الأمر فتلقاه جند سفكوا دمه فى جمادى الأولى سنة 399. وبذلك انتهت دولة بنى عامر.
واتفق بنو أمية على خلع هشام المؤيد ومبايعة محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر وتلقيبه بالمهدى، وكان طائشا: فرأى-بغير رويّة-مناصبة جند العامريين من البربر العداء، فاجتمع بهم بظاهر قرطبة سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فبايعوه فى ربيع الأول سنة 400 للهجرة ولقبوه بالمستعين، ونهضوا به إلى طليطلة وهناك استنصر بالجلالقة فنصروه، وكان ذلك أول إسفين دقّ فى ضياع