أو عرض الغيث أو ضحك الروض. إن للشمس محيّاه، وللريح ريّاه، وللنجم حلاه وعلاه، وللبرق سناؤه وسناه، وللغيث يداه ونداه، وللروض سجاياه».
وواضح أنه لما ذكر عنصرا من الطبيعة وهو الشمس أردفه بالريح والنجم والبرق والغيث والروض. والجناسات كثيرة فى القطعة. وبجانب ذلك نراه يكثر من الاقتباس من القرآن، كما يكثر من نسج الأبيات والشطور فى تضاعيف رسائله. ونراه يجنح كثيرا إلى سرد بعض القصص والحكايات القصيرة ضربا للأمثال كقوله من رسالة:
«فيما يقول الناس من حكاياتهم أن أعرابيا نام ليلا عن جمله ففقده، فلما طلع القمر وجده، فرفع إلى الله يده، فقال: أشهد لقد أعليته، وجعلت السماء بيته. ثم نظر إلى القمر فقال: إن الله صوّرك ونوّرك، وعلى البروج دوّرك، . . ولئن أهديت إلى قلبى سرورا، لقد أهدى إليك نورا. والشيخ ذلك القمر المنير لقد أعلى الله قدره، وأنفذ بين الجلود واللحوم أمره، ونظر إليه وإلى الذين يحسدونه، فجعله فوقهم وجعلهم دونه».
ويضرب مثلا لمن يذهب فى البحث بعيدا عن أمنيته، وهى مدّ يده، بالبخارى الذى ضاع حماره فذهب يبحث عنه فى البلاد النائية، بينما هو فى مربضه، يقول:
«لم يكن مثلى معه إلا مثل البخارى الذى ضاع حماره وخرج فى طلبه، حتى عبر نهر جيحون بسببه، يطلبه فى كل منهلة، وينشده فى كل مرحلة، وهو لا يجده حتى جاوز خراسان، وانتهى إلى طبرستان، وأتى العراق، وطاف الأسواق، فلما لم يجده وأيس عاد وقد طالت أسفاره، ولم يحصّل حماره، حتى إذا وصل إلى بلده، بين أهله وولده، أحب الله أن يلطف به لطفا ليعتبر به، فنظر ذات يوم إلى إصطبله، فإذا الحمار بسرجه ولجامه، وحزامه، قائما على المعلف ينشّ».
ورسائل البديع خفيفة ورشيقة، بل لعلها أخف وأرشق رسائل وصلتنا عن عصره وبعد عصره. وجعلته موهبته القصصية التى رأيناها فى رسائله يبتدع فنّا جديدا، هو فن المقامة، وهى حكاية قصيرة تقوم على الحوار بين بطل مقاماته: أبى الفتح الإسكندرى وراوية حكاياته وأقاصيصه عيسى بن هشام. والمعروف أنه أملى أربعين مقامة فى أثناء مقامه بنيسابور، وأضاف إليها خمسا، كما أسلفنا، عند نز وله بخلف بن أحمد أمير سجستان، ثم أضاف إليها ستا أخرى. والمظنون أنه عرض بنيسابور على طلابه أولا أحاديث ابن دريد الأربعين التى احتفظ بها كتاب الأمالى لأبى على القالى، وهى حكايات قصيرة مليئة بالسجع والغريب، وبعد أن أنهاها رأى أن يعرض على طلابه ثانيا أربعين مقامة له. ومعنى كلمة مقامة حديث. ولم يجعل مقاماته حكايات متنوعة