وفى هذه العبارات المحبوكة المسجوعة ما يدل على عناية يحيى بتعبيره وحوكه الفنى، ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن البرامكة كانوا من أهم العوامل فى شيوع السجع فى الكتابة الديوانية، وحقا أنه لا يطرد دائما فى كتاباتهم، ولكن نحس ميلهم الواضح له هم وبعض كتابهم ومن كانوا يكتبون إليهم.

وكان جعفر (?) لا يقل عن أبيه بيانا وفصاحة وبلاغة، إن لم يتقدم فى ذلك خطوات، وكان مثقفا بمعارف عصره ثقافة واسعة وضمّه أبوه إلى أبى يوسف القاضى فعلّمه وفقّهه حتى صار نادرة زمنه. وحظى عند الرشيد حظوة كبيرة لم ينلها أحد قبله، حتى قتله سنة 187 لما ثبت عنده من إطلاقه يحيى بن عبد الله العلوىّ من سجنه، على نحو ما مر بنا فى الفصل الأول. وكانت تضرب ببلاغته الأمثال ووصفه ثمامة بن أشرس فقال: «قد جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الإعادة، ولو كان فى الأرض ناطق يستغنى بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة (?)». ومن رسالة له فى العفو إلى أحد عماله (?):

«عندنا الاغتفار لما اقترفت، وتصديق كل ما قلت، واحتججت بذكره، واعتذرت بوصفه، والإسقاط لما جحدته، والإكذاب للجور الذى اقترفته، والرجوع عما أنكرته، والزيادة فيما اخترته، استدعاء لك وإن انصرفت، وحياطة لما قدمت وإن ذممت، وإيثارا للإغضاء والاحتمال فإنهما أبلغ فى الإصلاح، وأنجع فى الاستنجاح، وأسرع فى التعليم، وأكبر فى التقويم، إن احتيج إليه فى مثلك ممن تؤمن عليه قريحته، وترده إلى الاستقامة تجربته» والرساله مبنية على السجع، وكان جعفر يؤثره فى كتاباته، مبالغة منه فى التأنق والتنميق، وهو تنميق كان يطلبه فى كل ما يتصل به حتى فى ثيابه (?).

وكثير هم الكتاب البلغاء الذين كتبوا فى دواوين الرشيد والبرامكة وفى مقدمتهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015