وكان بجانب هؤلاء القصّاص الواعظون كثير من النساك، ومن الصعب استقصاؤهم إذ كانوا منتشرين فى كل الأمصار. وكان يحيون حياة زهد خالصة كلها تبتل وعبادة وتقشف وانقباض عن الاستمتاع بالحياة وملذاتها وانصراف عن كل نعيم فيها انتظارا لما عند الله من النعيم السرمدى الذى لا يزول. وفى البيان والتبيين وعيون الأخبار والعقد الفريد منثورات رائعة من أقوال مشاهيرهم أمثال سفيان الثورى المتوفى سنة 161 وداود الطائى المتوفى سنة 165 وعبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181 والفضيل بن عياض المتوفى سنة 187 وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 وكان يقول: «فكرك فى رزق غد يكتب عليك خطيئة (?)» ويقول: «لا يمنع أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله قد استجاب دعاء شرّ الخلق وهو إبليس (قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين)، وكان يستحب أن يقال فى الدعاء: اللهم استرنى بسترك الجميل (?). ومن مشهورى هؤلاء النساك عبد الواحد بن زيد المتوفى سنة 177 وهو الذى أنشأ أول رباط أو أول صومعة للناسكين فى عبّادان بالقرب من الكوفة، وفيهم وفى رباطهم يقول أبو العتاهية (?):
سقى الله عبّادان غيثا مجلّلا … فإن لها فضلا جديدا وأوّلا
وثبّت من فيها مقيما مرابطا … فما إن أرى عنها له متحوّلا
إذا جئتها لم تلق إلا مكبّرا … تخلّى عن الدنيا وإلا مهلّلا
فأكرم بمن فيها على الله نازلا … وأكرم بعبّادان دارا ومنزلا
وقد أخذت تقام فى هذا العصر رباطات أخرى فى أنحاء العالم الإسلامى، وكانت الدولة التى تقيمها أحيانا، ففى أخبار الفضل بن يحيى البرمكى أنه شخص إلى خراسان فى سنة ثمان وسبعين ومائة، فبنى المساجد والرباطات (?).
ويدلّ أكبر الدلالة على ارتفاع موجة النسك حينئذ أنه أخذت تنبثق بين