هذا نوع من الجناس اخترعه الحريري وذكر منه أبياتًا في المقامة السادسة والأربعين سماها الأبيات المتائيم؛ لأنها مبنية على الألفاظ المزدوجة، فكأنها جمع متئم، وهي من النساء التي من عادتها أن تلد توءمين، وهي خمسة أبيات، أولها:
زينت زينت بقد يقد ... وتلاه ويلاه نهد يهد
جندها جيدها وظرف وطرف ... ناعس تاعس بحد يحد
وأخص صفات هذا النوع أنك إذا أصبته عاطلًا من النقط مغفلًا من الضبط غمي عليك وجه قراءته فلا تتبين من ذلك شيئًا؛ وهو نفس الجناس الذي يسميه أهل البديع بالمصحف ويقولون في حده: إنه ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظًا كقوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} إلا أن هذا النوع قد أضيف على التصحيف فيه التحريف باختلاف الحركة، فهو مصحف محرف؛ ولم يمثلوا له بغير قول الحريري.
وكنت وقفت على كلمات من هذا النوع لبعض الكتاب ولا أدري إذا كان متقدمًا على الحريري أو هو متأخر عنه، فلا بد أن يكون أحدهما أخذ عن الآخر، وهذه عبارة ذلك الكاتب: "غرك عزك فصار قصار ذلّك ذلك فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدا". ولكن ما لا شك فيه أن الحريري أول من نظم في هذا النوع ثم وطئوا عقبه فيه، وقد ذكر في كتاب "الكنز المدفون" المنسوب للسيوطي بعض أبيات ركيكة على تلك الطريقة أفسدها التحريف ولم تنسب هناك لأحد، ومنها:
دلها دلها فضنت قضيب ... واعتدت واغتدت بعتب تعيب
ولم يذلل هذه الطريقة كالصفي الحلي، فإنه جاء منها بأربعمائة فقرة نثرًا وثمانين نظمًا في عشرة أبيات، وضمن ذلك جميعه رسالته التي سماها التوأمية: "وذكرت في ديوانه التوأمية خطأ" وقد أنشأها سنة 700هـ، وقال في سبب ذلك: إنه أنشأها حين جرى -بحضرة المولى السلطان الملك المنصور نجم الدين أبي الفتح بن أرتق- ذكر أبيات الحريري وعجز المتأخرين عن هذه الصناعة نظمًا ونثرًا، قال: وكنت أوثر من قبل أن أعرفه طرفًا من صورة واقعتنا بالعراق التي أوجبت انتزاحي، وأعرض بطلب خدمة ببلده مدة مقامي عندهم في "إنشاء بعض الرسائل المعجزة" فعندها أنشأت هذه الرسالة في تلك الصناعة وضمنتها ذكر ذلك كله ولقب السلطان لزوال الشبهة عنها.... ا. هـ.
وأول هذه الرسالة:
قبل قبل يراك ثراك ... عبد عند رخاك رجاك
ولا ينظر في هذا النوع إلا إلى محض الصنعة، فهو بعيد من التصفح والانتقاد فيما سوى ذلك؛