كلمات، كقولهم مثلًا عند الطعن: خذها وأنا فلان! ونحو ذلك، وهو مما تبعث عليه فطرتهم وأحوالهم من الأخلاق والاجتماع، فلا بد أن يكون ذلك منشأ انتباههم إلى الوزن؛ إذ لا يبعد أن يكون قد صاح بعضهم بكلمات قذفها القلب غضبًا وحدة، فجاءت كما يجيء قسيم بيت، ثم خرجت على أثرها كلمات أخرى وكانت أشد من تلك، فانتهت بحركة مفزعة هي حركة القافية، ثم انتبه الصائح إلى تتابع هذه الحركات، ووافق ذلك رفيف قلبه واهتزاز نفسه وتحريك الحمية والإعجاب، فقفى على البيت بآخر؛ وكان هذا سبب الانتباه إليه والشعور به، ثم شاع بينهم بعد ذلك وقصدوا إليه قصدًا في أغراضهم التي مثلت لهم بعد ذلك، من المقارضة والمماتنة والمفاتنة حين بعثهم على ذلك طبيعة التفرق وأحوال الاجتماع البدوي، بعد أن طارت بهم الفتن ومزقتهم الحروب على ما نعرفه من التاريخ؛ فتبعوا الوزن وبنوا عليه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها وتهش النفوس إليها، ثم خصوه بعد ذلك بما ينصرف إليه القول من وجوه التفاصح، فكان ذلك سببًا في إطالته وإحكامه.
وأنت إذا تدبرت حركات الأبحر التي شاع فيها نظم العرب، رأيتها من الحركات الحماسية، ولذلك بني أكثر شعرهم على الحماسة، خصوصًا ما وقع إلينا من الشعر القديم، فإن لم تكن تفاعيل الوزن من الحركات الحماسية كانت موسيقية مما تتحرك به العواطف؛ من أجل ذلك قلت في شعرهم القوافي الضعيفة إلى حد الندرة؛ لأن القافية قرار المعنى، وهي الصوت الطبيعي الذي ينزل من الشعر منزلة الإشارة التي تصحب كلام المتكلم؛ وتلك العناية منهم بها مما يرجح عندنا أن أصل الاهتداء إلى الوزن إنما كان بالقافية وما فيها من الرنين وما وافق من ناحية حمية الجاهلية كما سلفت الإشارة إليه.
وعلى هذا كان لا بد في الأوزان التي نظموا بها من موافقة المعنى في حركاته النفسية، للوزن في حركاته اللفظية، حتى يكون هذا قالب ذاك؛ وإذا أنت اعترضت شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصًا بنوع من المعاني، فالطويل وهو أكثر الأوزان شيوعًا بينهم، إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة، فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة، والحماسة التي يخالطها شيء من الإنسانية، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن؛ ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس، كالتشبيهات والأوصاف ونحوها؛ وبالجملة فإن حركات هذا الوزن إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني، وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان، بخلاف الكامل؛ فإن كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس، فإن كان حماسة كان شديدًا، وإن كان غزلًا كان أدخل في باب العتاب والارتفاع إلى الشكوى، وإن كان رثاء كان أقرب إلى التذمر والسخط، وإن كان وصفًا كان نظرًا سريعًا لا سكون فيه ولا إبطاء؛ وقس على ذلك سائر الأوزان، وهذه الأسرار الدقيقة هي التي امتاز بها الشعر العربي على كل ما سواه من أشعار الأمم، وهي هي التي يتفاضل بها الشعراء على مقدار رعايتها وعلى حساب ما يلهمون منها فيما ينظمون.