في نفسه إحساسًا لنظر معنوي.

وهذا ضرب من التصرف بالكلام في أخلاق النفوس الباطنة التي تذعن لها النفوس وتتصرف معها، وقلما يستحكم لامرئ إلا بتأييد من الله وتمكين من اليقين والحجة فهو على حقيقته مما لا تعين عليه الدربة والمزاولة إلا شيئًا يسيرًا لا يستوفي هذه الحقيقة، ولا يمكن أن تجعله المزاولة فيمن ليس من أهله كما هو في أهله، ولأمر ما قال أفصح العرب صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم" وفي رواية: "أوتيت" وكان يتحدث في ذلك بنعمة الله عليه، فما هو اكتساب ولا تمرين، ولا هو أثر من أثرهما في التفكير والاعتبار، ولا هو غاية من غايات هذين في الصنعة والوضع، إنما هو "إعطاء وإيتاء" فمن لم يعط لم يأخذ، ومن لم يأخذ لم يكن له من ذلك كائن ولم تنفعه منه نافعة.

ولاجتماع تلك الثلاثة في كلامه صلى الله عليه وسلم وبناء بعضها على بعض، سلم هذا الكلام العظيم من التعقيد والعي والخطل والانتشار وسلمت وجوهه من الاستعانة بما لا حقيقة له من أصول البلاغة كالمجاز البعيد الذي يغوص إلى الأعماق الخيالية، وضروب الإحالة، وفساد الوضع المعنوي، وفنون الصنعة، وما إليها مما هو فاش في كلام البلغاء، يعين جفاء البداوة على بعضه، ورقة الحضارة على بعضه، وهو في الجهتين باب واحد.

ولذلك السبب عينه كثر في البلاغة النبوية هذا النوع من الكلم الجامعة التي هي حكمة البلاغة، وهو غير ذلك النوع الذي قلنا فيه، مما تكون غرابته من تركيب وضعه في البيان، ثم هو أكثر كلامه صلى الله عليه وسلم كقوله:

"إنما الأعمال بالنيات".

"الدين النصيحة".

"الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات".

"المضعف أمير الركب"1.

وقوله في معنى الإحسان:

"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وقوله:

"لا تجن يمينك عن شمالك".

"خير المال عين ساهرة لعين نائمة".

"آفة العلم النسيان. وإضاعته أن تحدث به غير أهله".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015