وقوله في حديث الفتنة: "هدنة على دخن"، والهدنة: الصلح والموادعة والدخن: تغير الطعام إذا أصابه الدخان في حال طبخه فأفسد طعمه1.

وهذه العبارة لا يعدلها كلام في معناها، فإن فيها لونًا من التصوير البياني لو أذيبت له اللغة كلها ما وفت به، وذلك أن الصلح إنما يكون موادعة ولينًا؛ وانصرافًا عن الحرب، وكفا عن الأذى؛ وهذه كلها من عواطف القلوب الرحيمة فإذا بني الصلح على فساد، وكان لعلة من العلل، غلب ذلك على القلوب فأفسدها، حتى لا يسترح غيره من أفعالها، كما يغلب الدخن على الطعام، فلا يجد آكله إلا رائحة هذا الدخان، والطعام من بعد ذلك مشوب مفسد.

فهذا في تصوير معنى الفساد الذي تنطوي عليه القلوب الواغرة2 وثم لون آخر في صفة هذا المعنى، وهو اللون المظلم الذي تنصبغ به النية "السوداء" وقد أظهرته في تصوير الكلام لفظة "الدخن".

ثم معنى ثالث، وهو النكتة التي من أجلها اختيرت هذه اللفظة بعينها، وكانت سر البيان في العبارة كلها، وبها فضلت كل عبارة تكون في هذا المعنى وذلك أن الصلح لا يكون إلا أن تطفأ الحرب، فهذه حرب قد طفئت نارها بما سوف يكون فيها نارًا أخرى. كما يلقى الحطب الرطب على النار تخبو به قليلًا، ثم يستوقد فيستعر فإذا هي نار تلظى، وما كان فوقه الدخان فإن النار ولا جرم من تحته، وهذا كله تصوير لدقائق المعنى كما ترى، حتى ليس في الهدنة التي تلك صفتها معنى من المعاني يمكن أن يتصور في العقل إلا وجدت اللون البياني يصوره في تلك اللفظة لفظة "الدخن".

ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "بعثت في نفس الساعة" يريد أنه بعث والساعة قريبة منه. فوصف ذلك باللفظة التي تدل على أدق معاني الحس بالشيء القريب، وهو لفظة النفس كما يحس المرء بأنفاس من يكون بإزائه ولا يكون ذلك إلا على شدة القرب، وإنما أفرد اللفظة ولم يقل: "بعثت في أنفاس الساعة" لأنها نفخة واحدة، وهذا معنى آخر فإن النفخة الشديدة متى جاءت من بعيد كانت كالنفس من الأنفاس، وليس المراد من قرب الساعة أنها قدر اليوم أو غد على التعيين، ولكن المراد أنها آتية لا ريب فيها. وأن ما بقي من عمر الأرض ليس شيئًا فيما مضى، وإن لا نظام لإنسان الدنيا إلا أن يتمثل في نفسه إنسان الآخرة، فالساعة من القرب كأنها من كل إنسان في آخر أنفاسه وهذا كله قد أصبح اليوم من الحقائق التي لا مرية فيها.

وفي تلك اللفظة معنى ثالث، كأنه يقول: إن عمر الأرض كان طويلًا فكانت الساعة بعيدة ثم قصر هذا العمر فبدأت الساعة تتنفس، وما يدرينا أنه قد حان أجل الأرض كما يحين أجل النهار عندما تبدأ الدقيقة الأولى من ساعة الغروب، ثم لا ينقضي هذا الأجل إلا في الدقيقة الأخيرة من هذه الساعة؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015