ومن أجل ذلك تقرأ كلام البليغ من الناس، فترى الصنعة المحكمة، والطبع القوي، والصقل البديع، واللفظ المونق، والحكمة الناصعة، ولكنك تصيب أكثر ذلك أو عامته على وجهه كما هو، ليس فيه سر من أسرار البيان، ولا دقيقة من أوضاع اللغة، ولا غرابة من التركيب تتحير فيها، وتقف عندها وتعطف برأيك عليها كلما هممت أن تمضي في الكلام، وتردد نظرك في مصادرها ومواردها، على إصابتك من الصناعة، وبلوغك من الأدب، ورسوخك في حكمة البلاغة، فإن البصير بذلك ليمر في كلام البلغاء مرا، لا يعدو أن يستحسنه ويعجب به ويستمرئ أسلوبه، حتى إذا انتهى إلى وجه من وجوه هذه الغرابة البيانية رأى في الكلام عقلًا من العقول تنطوي عليه الأحرف القليلة، وكأنه يكاشفه بنفسه وقد ثبت على نظره كما تثبت العاطفة، فما يعفو ولا يضمحل1 حتى يكون هذا المتبين الذي يطلب أسرار الكلام قد وقف عنده ذاهلًا، وحبس عليه الفكر يتأمل به فرق ما بين عقله وهذا العقل، ويروز نفسه2 منه مختبرًا، ويتعرف من تلك الأحرف القليلة مسافة ما بين العجز والقدرة إن كان عاجزًا عن مثله، أو ما بين قوة وأخرى إن كان قادرًا عليه؛ فكأن اللفظة الواحدة من تلك الجملة إنما هي مقياس للنبوغ والابتكار وكأن الجملة ليست كلامًا من الكلام، ولكنها سر من أسرار النفس يلقي إليه شغلًا طويلًا لم يكن هو من قبل في سبب من أسبابه. وما كان إلا في أحرف وكلمات ينشر منها ويطوي، فقد صار إلى كلمات مسحورة تنشر هي من نفسه وتطوي.

هذا، على أن كلامه صلى الله عليه وسلم ليس مما تكلف له، ولا داخلته الصنعة، ولا كان يتلوم على حوكه وسرده، ولكنه عفو البديهة، ومساقطة الحديث، مما يجريه في مناقلة الكلام ومساق المحاضرة، وأنه مع ذلك لعلى ما وصفنا وفوق ما وصفنا، فقد تراه وما يتفق فيه من الأوضاع التركيبية الغريبة، وتعرف أن ذلك شيء لم يتفق مثله في هذا الباب لشاعر ولا خطيب ولا كاتب على إطالة الرواية. ومراجعة الطبع، والغلو في الصنعة، وعلى أن لهم السبك الخالص والمعدن الصريح, والبيان الذي يتفجر في الألسنة لرقته وعذوبته واطراده.

والبليغ من البلغاء في صنعته وبيانه، كالشجرة المورقة في روائها ونضرتها حتى تتسق له أسباب من هذه الأوضاع البيانية، وتستقل له طريقة في عقدها وإخراجها، فيبلغ أن يكون مثمرًا، والثمر بعد متفاوت في أشجار البلاغة، نضجًا وماء وحلاوة وكثرة، وما أثمرت من ذلك بلاغة غربية ما أثمرته بلاغة السماء في القرآن الكريم ثم بلاغة الأرض في كلامه صلى الله عليه وسلم، والناس بعد ذلك أجمعوا حيث طاروا أو وقعوا.

فمن هذه الأوضاع قوله عليه الصلاة والسلام: "مات حتف أنفه" وقد شرحناه فيما مر بك، وقوله في صفة الحرب يوم حنين: "الآن حمي الوطيس" والوطيس: هو التنور مجتمع النار والوقود، فمهما كانت صفة الحرب، فإن هذه الكلمة بكل ما يقال في صفتها، وكأنما هي نار مشبوبة من البلاغة تأكل الكلام أكلًا، وكأنما هي تمثل لك دماء نارية أو نارًا دموية!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015