لا جرم كان القرآن في نظمه وتركيبه على الأصل الذي أومأنا إليه: نمطًا واحدًا في القوة والإبداع، ولا تقع منه على لفظ واحد يخل بطريقته، ما دامت تنعطف على جوانب هذا الكلام الإلهي وما دام في موضعه من النظم والسياق1 فإذا أنت حرفت ألفاظه من مواضعها، أو أخرجتها من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حصلت معك ألفاظ كغيرها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها -وهي في الحالتين لغة واحدة- كأنما خرجت من لغة إلى لغة، لبعد ما كانت فيه مما صارت إليه، بيد أنك إذا تعرفت ألفاظ اللغة على هذا الوجه في كلام عربي غير القرآن، أصبت أمرًا بالخلاف، ورأيت لكل لفظة روحًا في تركيبها من الكلام فإذا أفردتها وجدتها قريبة مما كانت؛ لأنها هي نفسها التي كانت من روح التركيب، ولم يكن لهذا التركيب في جملته روح خاصة بالنسق والنظم، فعلى كل لفظة معنى في الجملة كما أعطتها اللغة معنى في الإفراد، حتى إذا أبنتها وميزتها من هذه الجملة ضعفت ونقصت، وتبينت فيها الوحشة والقلة شبيه الذي يعرض للغريب إذا نزح عن موطنه وبان من أهله، وكان كل ذلك فيها طبيعيا؛ لأن حقيقة التركيب إنما هي صفة الوحي في هذا الكلام.