وباستقصاء أجزاء البيان وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات، لا يتفاوت ذلك ولا يختل، فمن أين يدخل على قارئه ما يكد لسانه أو ينبو بسمعه؛ أو يفسد عليه إصغاء أو يرده عما هو منه بسبيله؛ أو يتقسم إحساسه ويتوزع فكره؛ أو يورده الموارد من ذلك كله أو بعضه؛ إلا أن يكون هذا القارئ ريضًا لم تفلح فيه رياضة البلاغة، ولا أجدى عليه التمرين والدربة؛ فخرج ألف اللسان بليد الحس متراجع الطبع، لم يبلغ مبلغ الصبيان في إحساس الغريزة وصفاء هذه الحاسة واطراد هذا الصفاء.
فإننا لنعرف صبيان المكاتب -وقد كنا منهم- وما يسهل عليه القرآن وإظهاره، ولا يمكنه في أنفسهم حتى يثبتوه، إلا نظمه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو متون العلوم أو مختار الكلام أو نحوه مما يرادون على حفظه، أي ذلك كان، لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذل، حتى لا يجمعوا منه قدرًا في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن على أنهم يبلغون من هذا بالعفو والأناة، ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعنت والجهد.
وقد ينسى أحدهم الآية من القرآن فينقطع إلى الصمت من قراءته، أو تتدخل في لفظة بعض الآيات المتشابهة في السور، أو يسقط بعض اللفظ في تلاوته فيضل في ذلك، ثم لا ييسره للذكر، ولا يذكره بالآية المنسية أكثر ما يتذكر، إلا نسق الحروف في بعض كلماتها، ولا يبين له مواقع الكلم المتشابهات، إلا نظام كل كلمة من آيتها، ولا يهديه إلى ما أسقطه من اللفظ غير إحساسه باضطراب النظم وتخلخل الكلام، ولقد كان ذلك أكبر ما كنا نستعين به أيام الحداثة على اتقاء الغلط والمداخلة والسهو، وكنا نفزع إليه إذا جلسنا بين يدي فقيهنا -رحمه الله- مجلس القراءة "والتسميع". وقد عرفنا أن تأذي سمعه مقرون بأذى عصاه ... وكم تواصفنا مع أذكياء الصبيان في "الكتّاب" فما رأينا منهم إلا من ادخر لمحنته من ذلك أشياء1.