القدر وهو لا يغالب والمرء ينسى ويذكر، وقد يتراجع طبعه فترة لا عجزًا، وقد يعتريه السأم ويتخونه الملال، فينصرف عن الشيء وهو له مطيق، وذلك ليس أحق بأن يسمى عجزًا من أن يسمى تهاونًا، ولا هو أدخل فيما يحمل عليه الضعف منه فيما يحمل عليه فضل الثقة1.
على أن القول بالصرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظام، يصوبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاج هذا البليغ لصحته، وقيامه عليه، وتقلده أمره، لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغوي وما إلى ذلك، ولكن القوم -عفا الله عنهم- أخرجوا أنفسهم من هذا كله، وكفوها مؤنته بكلمة واحدة تعلقوا عليها، فكانوا فيها جميعًا كقول هذا الشاعر الظريف الذي يقول:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء..
ولم نر أحدًا فسر هذه الكلمة "الصرفة" كابن حزم الظاهري، فإنه قال في كتابه "الفصل" في سبب الإعجاز: "لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن ما قالها لله تعالى وجعله كلامًا له، أصاره معجزًا ومنع من مماثلته ... قال: وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره". نقول: بل هو فوق الكفاية، وأكثر من أن يكون كافيًا أيضًا؛ لأنه لما قاله ابن حزم وجعله رأيًا له، أصاره كافيًا لا يحتاج إلى غيره! وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثبات أنه كلام الله تعالى؟
وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب فيه: "إن هو إلا سحر يؤثر" وهذا زعم رده الله على أهله وأكذبهم فيه وجعل القول به ضربًا من العمى2 {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد.
أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال نشير إلى بعضها في موضعه غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في منخل ... ولذلك لم يسم هو أيضًا من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها وأومأ إليها من عرض، فقد سرد في موضع من كتاب "الحيوان" طائفة من أنواع العجز، وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها ورفع ذلك القصد من صدورهم، ثم عد منها: "ما رفع من أوهام العرب وصرف نفوسهم عن المعارضة لقرآنه بعد أن تحداهم الرسول بنظمه" وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له أو نبه عليه3، أو هو يكون ناقلًا، ولا ندري.