عن جماعة أهل العراق ما كانوا يستطيلون به على أهل الأمصار الأخرى، من عرض الدعوة وتطويل الحديث. وتخطئة من لا يليهم أو يواليهم؛ وقد كانوا قبل ذلك يربونهم1 ويضيقون عليهم متنفسهم من العلم، ويرون أن هذا العلم عراقي، وأن ليس الأمر مع غيرهم بحيث إذا هو جد فيه رأى المادة مؤاتية وبلغ منه مثل الذي بلوغه وكان دركه حقيقًا بأن يسمى عندهم دركًا، ولعل ذلك جاءهم في الأصل من قبل العربية وأهلها، فقد علمت من "باب الرواية" كيف كانوا يبسطون ألسنتهم ويتنبلون بعلمهم ويذهبون بأنفسهم؛ إذ لم يكن في الأرض أعلم منهم بالعربية؛ ولا أوثق في روايتها، ولا أجمع لأصولها، ولا أصح في ذلك كله2.

ولسنا نريد أن نخوض في الكشف عن مبدأ انتشار العلوم النظرية والعلل الباعثة عليها، ومن كان مع أهلها من الخلفاء ومن كان عليهم فلذلك موضع في كتاب التاريخ هو أملك به وأوفى، غير أننا نوثق الكلمة في أن القرآن الكريم هو كان سبب العلوم الإسلامية ومرجعها كلها بأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن وأخذوا منه مادة علمهم أو مادة الحياة له، فقد كانت سطوة الناس في الأجيال الأولى من العامة وأشباه العامة شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبًا من التأويل والاستشهاد والنظر، أو يبتغوا بها مقصدًا من مقاصده، أو يريغوا معنى من معاني التفقه في الدين والنظر في آظار الله، إلى ما يشبه ذلك مما يكون في نفسه صلة طبيعية بين أهل العقول والبحث وأهل القلوب والتسليم3.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015