وأنشأ الله القرون والأجيال لتبلغ هذه الحادثة أجلها ويتناهى بها القضاء، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} .

ولقد كانت النهضة العلمية في زمن بني أمية قائمة بأكثر العلوم الإسلامية التي مرت الإشارة إليها، حتى امتهد أبو جعفر المنصور؛ ثم الرشيد من بعده للنهضة العباسية الكبرى التي نشأت من جمع كلمة أهل الفقه والحديث بعد انشقاقهم زمنًا وافتراق الكلمة بينهم, ومن إقبال الناس على الطلب والاستيعاب، فكان ذلك تهيئة لانشقاق علوم الفلسفة والكلام وما إليها وظهور أهلها وانحياز السنة عنها جانبًا، ثم اجتماعها على مناظرتها؛ فإن المنصور1 لما حج في سنة 163هـ لقيه مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه بمنى على ميعاد، بعد الذي كان مما أنزل به جعفر بن سليمان عامل المنصور على المدينة من الضرب بالسوط وانتهاك الحرمة وإزالة الهيبة2، قال مالك رحمه الله: "ثم فاتحني "يعني المنصور" فيمن مضى من السلف والعلماء، فوجدته أعلم الناس بالناس؛ ثم فاتحني في العلم والفقه فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه، حافظًا لما روى، واعيًا لما سمع، ثم قال لي: يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودون منه كتبًا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ ابن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله تعالى عنهم، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها. فقلت: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا. فقال أبو جعفر: "يحملون عليه وتضرب عليهم هاماتهم بالسيف وتقطع ظهورهم بالسياط! " فتعجل بذلك وضعها، فسيأتيك محمد ابني "المهدي" العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله! ".

ثم قدم المهدي على مالك، وقد وضع أجزاء كتابه "الموطأ" فأمر بانتساخها وقرئت على مالك. إلى أن كانت سنة 174هـ فخرج الرشيد حاجا، ثم قدم المدينة زائرًا، فبعث إلى مالك فأتاه فسمع منه كتابه ذلك، وحضره يومئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف من رؤسائهم أحد إلا وحضر الموسم مع الرشيد، وسمع وسمعوا من مالك موطأه كله، ثم أنكروا عليه مسألة فناظروه فيها، حتى إذا كشف لهم عن وجهها وأبان فيها طريق الرواية والتأويل صاروا إلى الرضى بقوله والتصديق لروايته والتسليم لتأويل ما تأول.

لا جرم كان هذا سببًا في اجتماع كلمة الفقهاء، إن لم يكن ديانة فسياسة، ولم يؤثر من بعدها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015