...
مقدمة الطبقة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} .
الحمد لله بما حمد به نفسه في كتابه، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأصحابه، أما بعد فإنا قد أفردنا هذا الجزء بالكلام في إعجاز القرآن الكريم وفي البلاغة النبوية، وقصرنا من ذلك على ما كان مرجع أمره إلى اللغة في وضعها ونسقها والغاية منها، إلى ما يتصل بجهة من هذه الجهات، أو يكون مبدأ فيها أو سببًا عنها، أو واسطة إليها، وهذا هو في الحقيقة وجه الإعجاز الغريب الذي استبد بالروح اللغوية في أولئك العرب الفصحاء, فاشتملت به أنفسهم على خلق من العزيمة الحذاء1 دائبًا لا يسكن كأنه روح زلزلة. فلم تزل من بعده ترجف بهم الأرض حيث انتقلوا.
ولا يخفين عليك أن ذلك في مرده كأنه باب من فلسفة اللغة، فهو لاحق بما قدمناه من أمرها2 يستوفي ما تركناه ثمة، ويبلغ القول في محاسنها وأسرارها، فيكون بعض ذلك تمامًا على بعضه، إذ اللغة هناك مفردات واللغة ههنا تراكيب، وليس رجل ذو علم بالكلام العربي وصنعته ينازع أو يرتاب في أن القرآن معجزة هذه في بلاغة نظمه واتساق أوضاعه وأسراره، فمن ثم كانت مادة الاتصال في نسق التأليف بين هذا الجزء والذي قبله.
على أن القوم من علمائنا -رحمهم الله- قد أكثروا من الكلام في إعجاز القرآن وجاءوا بقبائل من الرأي3 لونوا فيها مذاهبهم ألوانًا مختلفات وغير مختلفات بيد أنهم يمرون في ذلك عرضًا على غير طريق4 ويشتقون في الكلام ههنا وههنا من كل ما تتمرس به الألسنة5 في اللدد والخصومة، وما يأخذ بعضه على بعض من مذاهبهم ونحلهم6، وليس وراء ذلك كله إلا ما تحصره هذه المقاييس من "صناعة الحق"7 وإلا أشكال من هذه التراكيب الكلامية، ثم فتنة متماحلة8 لا تقف عند غاية في اللجاج والعسر.
وقد كان هذا كله من أمرهم وعلمهم، وكان له زمن وموضع، وكانت تبعثهم عليه طبيعة ورغبة، والمرء بروح زمانه أشبه، وبحالة موضعه أشد مناسبة ولا بد من طبقة في الموافقة بين الأشياء