كل الأزمنة، فهو يحويها كلها وكأنه معها كلها، وبذلك يتعين أنه هداية إلهية في أسلوب إنساني يحمل في نفسه دليل إعجازه، ويكون القرآن منفردًا في التاريخ بأنه منذ أنزل لا يبرح في كل عصر يظهر من ناحيتين صادقتين: ناحية الماضي، وناحية الحاضر.

فثباته على خلاف قاعدة الثبات الإنسانية، إعجاز ليس في العجب أبدع منه إلا تحول معانيه على غير قاعدة التحول، إنه وجود لغوي ركب كل ما فيه على أن يبقى خالدًا مع الإنسانية؛ فهو يدفع عن هذه اللغة العربية النسيان الذي لا يدفع عن شيء, وهذا وحده إعجاز. ثم هو لن يكون كفاء ذلك ولن يقوم به إلا إذا كان معجزًا أهل اللغة جميعًا، فتذكر به اللغة ولا يذكر هو بها؛ وبذلك يحفظها؛ إذ يكون في إعجازه مشغلة العقل البياني العربي في كل الأزمنة، يأتي الجيل من الناس ويمضي وهو باق بحقائقه ينتظر الجيل الذي يخلفه؛ كما أنه مشغلة الفكر الإنساني إذا أريد درس أسمى نظام للإنسانية في حرامها وحلالها مما تحله مصلحة الاجتماع أو تحرمه.

وهنا معنى دقيق بديع فإن الأديان إنما كانت على النبوات، ولم يأت دين من الأديان بمعجزة توضع بين أيدي الناس يبحث فيها أهل كل عصر بوسائل عصرهم غير الإسلام، بما أنزل فيه من القرآن, فكأن النبوة في هذا الكتاب متجددة أبدًا يلتقي بروحها كل من يفهم دقائقه وأسراره، فلا يلبث البليغ الذي يفهم القرآن -ولو لم يكن من أهله المؤمنين به- أن يستيقن في نفسه أنه حارس على اللغة، ثم يغلو في هذا اليقين فإذا هو قد أوحت إليه نفسه أنه ليس حارسًا على اللغة العربية فحسب، ولكنه كذلك من حراس المعجزة.

ولو كان الإنسان باقيًا بقاء المادة لجاز أن يتحول، بل لوجب أن يتحول ولكن فناء الناس جميعًا من أول تاريخ الإنسانية برهان حي مستمر الدلالة على أن هذه الإنسانية محدودة بحقائقها محصورة في معانيها، وأن عليها طابعًا إلهيا يؤذن أنها مفروغ منها، وإذا كان ذلك من أمرها وجب أن تكون حدودها بينة صريحة في أعاليها وأسافلها؛ وإذا صح هذا لزم أن يكون لها كتاب منزل من الله، فإذا نحن أصبنا تلك الحدود في القرآن ورأينا أثر القرآن في الآخذين به والمهتدين بهديه، فلا علينا أن نقول بصيغة الجزم: إن القرآن كتاب أنزل لتكون كل نفس سامية نسخة حية من معانيه، وليكون هو النفس المعنوية الكبرى، فهو كتاب ولكنه مع ذلك مجموعة العالم الإنساني*.

مصطفى صادق الرافعي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015