القرآن، وكان لا يملي إلا من حفظه، ومرض يومًا فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمرًا عظيمًا، فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتبًا1 وأعجب ما عرف من أمره أن جارية للراضي بالله سألته يومًا عن شيء في تعبير الرؤيا، فقال: أنا حاقن! ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني وجاء من الغد وقد صار معبرًا للرؤيا.
وللمتأخرين من بعد القرن الخامس ولوع بحفظ الكتب؛ لأن الحفظ خلف الرواية من ذلك العهد، فقامت الكتب مقام الرواة أنفسهم، ومن أعجب ما يُروى من ذلك أن الملك عيسى ابن الملك العادل الأيوبي سلطان الشام المتوفى سنة 604هـ أمر الفقهاء أن يجردوا له مذهب أبي حنيفة دون صاحبيه "محمد وأبي يوسف"2 فجردوه في عشرة مجلدات وسموه، "التذكرة" فكان يديم قراءته ولا يفارقه حتى حفظه، وذكروا أنه كتب على جلد منه: "حفظه عيسى". وهذا الملك هو الذي شرط لكل من يحفظ "المفصل" للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة.
وكان علماء الأندلس يتهافتون على حفظ الكتب، وخاصة كتاب سيبويه في النحو، وأخبارهم في ذلك مستفيضة.
بيد أن من أعجب ما وقفنا عليه من تاريخ الحفظ في المتأخرين وفي البلاد التي يكون أهلها بالفطرة أبعد عن العربية وآدابها، ما ذكره صاحب "الشقائق النعمانية" من أنه كانت في بلاد قرامان -لعلها القريم- مدرسة مشهورة بمدرسة السلسلة، شرط بانيها أن لا يدرس فيها إلا من حفظ كتاب "الصحاح" للجوهري، وذلك في أواخر القرن الثامن، وهي مدرسة نشأ منها علماء على مذهب من التحقيق، يظهر أنه كان لعلماء الروم عناية بالصحاح؛ فقد أورد صاحب "الشقائق" في موضع آخر في ترجمة المولى المشهور بالمليجي "في النصف الأخير من القرن التاسع" أنه كان يحفظ "الصحاح"، وكان يرجع إليه إذا شكلت كلمة منه فيقرأ ما يتعلق بتلك الكلمة من حفظه.
على أن خاتمة حفاظ اللغة في المتأخرين بلا نزاع، إنما هو الشيخ مجد الدين الفيروزآبادي