0فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض أيها الأمير في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول إنه ما قرأ كتابًا قط فاحتاج أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه؟ فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك ما حكى، وأنا أقرب إليك1: قد نظر الأمير فيما نظر من الرقاع، وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة!
قال: فأمر وأحضرت الرقاع، فقال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا، والرقعة الثانية، والثالثة، حتى مر في نيف وأربعين رقعة؛ فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين! فكف الأصمعي.
وكان أبو محلم الشيباني المتوفى سنة 248هـ لا ينسى شيئًا، حتى قيل فيه إنه صاحب السبعين لعهده؛ ولما قدم مكة لزم ابن عيينة فلم يكن يفارق مجلسه، فحدث أنه قال له يومًا: يا فتى، أراك حسن الملازمة والاستماع، ولا أراك تحظى من ذلك بشيء! "قال أبو محلم": قلت: وكيف؟ قال: لأني لا أراك تكتب شيئًا مما يمر! قلت: إني أحفظه! قال: كل ما حدثت به حفظته؟ قلت: نعم! فأخذ دفتر إنسان بين يديه وقال: أعد علي ما حدثت به اليوم. فأعدته فما خرمت حرفًا، فأخذ مجلسًا آخر من مجالسه فأمررته عليه، فأورد حديث السبعين عن ابن عباس، وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب السبعين!
وسأل الواثق يومًا أبا محلم هذا عن شاهد من الشعر فيه ذكر المَرْت "وهو الفقر الذي لا نبت فيه" فأفكر طويلًا حتى أنشد بعض الحاضرين بيتًا لبعض بني أسد، فضحك أبو محلم، ثم قال للذي أنشده: ربما بعد الشيء عن الإنسان وهو أقرب إليه مما في كمه، والله لا تبرح حتى أنشدك، فأنشده للعرب مائة بيت معروف لشاعر معروف في كل بيت منها ذكر المرت.
وكان بندار بن عبد الحميد "وهو معاصر لأبي محلم" لا يشذ عن حفظه من شعر الجاهلية والإسلام إلا القليل: ذكروا أنه يحفظ سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة منها: بانت سعاد2.
وكان ابن دريد المتوفى سنة 321هـ أحفظ الناس وأوسعهم علمًا، تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها من حفظه، وقد تصدر في العلم ستين سنة.
وأبو بكر الأنباري المتوفى سنة 327هـ، فقد كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر شاهدًا في