قد قلنا في طريقة الكتاب؛ أما تأليفه وأسلوبه ونمطه فإننا لم نأل جهدًا في البحث والتنقيب، ولم نأخذ في أمرنا بالرسلة، ولا استوطأنا منه الهين الهين؛ بل طاولنا ما طال من التعب، وصابرنا ما يعز عليه الصبر من الضجر، وما زلنا نرد النفس على مكروهها حتى استقرت، فلم نترك كتابا يمكن أن يستفاد منه حرف مما نحن بسبيله إلا قرأناه في طلبه1، وحملنا على النفس ما يكون من نصبه، وهذا أمر كما ترى متطاول، ومنال ولكن لم نجد له لبعده من متناول، ثم إن مواد هذا التاريخ إذ لم يتولها الكاتب بالذهن الشفاف، ولم يعتبرها بالفطنة النفاذة حتى يكون لغيبها كالعراف، فقلما تجتمع إلا متفرقة في طلب مواضعها، منازعة إلى منازعها؛ لأنها في أصلها غير كاملة النسق، ولا قريبة المتسق؛ ومن تحرى ما تحريناه من ذلك يقف من تاريخ الأدب على غور بعيد.
ولم نبالغ في تهذيب العبارة، ولا تدقيق المعاني، ولا تنقيح الألفاظ؛ إذ كان سبيل التاريخ أن لا يجيء عن طبقة واحدة من الناس، فبالحري لا يوضع لطبقة واحدة منهم، وحسبنا من البلاغة أن يكون كتبانا لمقتضى الحال.
ولم نستكثر من الأمثلة "والمختارات"؛ رغبة منا عن حشو الكتاب بما لا فائدة فيه إلا تعذيب حجمه، وتذنيب نجمه؛ إذ كان ذلك لا يغني شيئًا في مادة التاريخ إلا قليلًا منه يستوفى به حق النقد، ويدل ببعضه على أثر من آثار ما نحن فيه، والأمثلة مطروحة في طرق النظر من كل كتاب، وقد ابتذلها المتأخرون حتى لم يعد من دونها حجاب2.
وكذلك ضربنا صفحًا عن الروايات الضعيفة، والمبالغات السخيفة، وما اعترضنا من التكاذيب والتهاويل إلى ما يدل في تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وبالغنا في التثبت والتحقيق وتصفح الآراء وتجريح النقلة والرواة، مقتصدين في الثقة بهم، معتدلين في التهمة لهم، لا نتجاوز مقدار