لما هلك المستعصم ببغداد واستولى التتر على سائر الممالك الإسلامية فافترق شمل الجماعة وانتثر سلك الخلافة وهرب القرابة المرشّحون وغير المرشحين من قصور بغداد فذهبوا في الأرض طولا وعرضا، ولحق بمصر كبيرهم يومئذ أحمد ابن الخليفة الظاهر، وهو عمّ المستعصم وأخو المستنصر، وكان سلطانها يومئذ الملك الظاهر بيبرس ثالث ملوك الترك بعد بني أيوب بمصر والقاهرة، فقام على قدم التعظيم وركب لتلقّيه وسرّ بقدومه، وكان وصوله له سنة تسع وخمسين فجمع الناس على طبقاتهم بمجلس الملك بالقلعة، وحضر القاضي يومئذ تاج ابن بنت الأعز فاثبت نسبه في بيت الخلفاء بشهادة العرب الواصلين معه بالاستفاضة، ولم يكن شخصه خفيّا، وبايع له الظاهر وسائر الناس ونصّبه للخلافة الإسلامية ولقّبوه المستنصر، وخطب له على المنابر ورسم اسمه في السكّة. وصدرت المراسم السلطانية بأخذ البيعة له في سائر أعمال السلطان، وفوّض هو للسلطان الملك الظاهر سائر أعماله، وكتب تقليده بذلك وركب السلطان ثاني يومه إلى خارج البلد، ونصب خيمة يجتمع الناس فيها فاجتمعوا وقرأ كتاب التقليد. وقام السلطان بأمر هذا الخليفة ورتّب له أرباب الوظائف والمناصب الخلافية من كل طبقة، وأجرى الأرزاق السنيّة، وأقام له الفسطاط والآلة. ويقال أنفق عليه في معسكره ذلك ألف ألف دينار من الذهب العين، واعتزم على بعثه إلى بلاد العراق لاسترجاعه ممالك الإسلام من يد أهل الكفر. وقد كان وصل على أثر الخليفة صاحب الموصل وهو إسماعيل الصالح بن لؤلؤ أخرجه التتر من ملكه بعد مهلك أبيه فامتعض له الملك الظاهر، ووعده باسترجاع ملكه وخرج آخر هذه السنة مشيّعا للخليفة ولصالح بن لؤلؤ، ووصل بهما إلى دمشق فبالغ هناك في تكرمتهما وبعث معهما أميرين من أمرائه مددا لهما، وأمرهما أن ينتهيا معهما إلى الفرات. فلمّا وصلوا الفرات بادر الخليفة بالعبور وقصد الصالح بن لؤلؤ الموصل، واتصل الخبر بالتتر فجردوا العساكر للقائه والتقى الجمعان بعانة، وصدموه هنالك فصادمهم قليلا. ثم تكاثروا عليه فلم يكن له بهم طاقة وأبلى في جهادهم طويلا ثم استشهد