ثم انصرفت من عرفات الوفود وانفض المشهد المشهود، وفاض الكرم الواسع وعم الجود، ورعدت الطبول وخفقت البنود وخرجت من بين العلمين تلك الجنود، وغصت بهم الربى والتهائم ولنجود، إلى أن أتينا مزدلفة بين العشائين فجمعنا فيها بين الصلاتين، واتقد المشعر الحرام، وما حوله تلك الليلة مشاعيل من الشمع المسرج، وعاد كله نورا فيخيل للناظر إليه كواكب السماء كلها نزلت به وعلى هذه الصفة تكون هذه المشاهد مدة إقامة الركبان بها، لأن أولئك الخرسانيين وسواهم من العراقيين والشاميين أعظم الناس همة في استجلاب هذا الشمع والاحتفال فيه والإكثار منه إضاءة لهذه المشاهد المقدسة، فيا لك من ضياء زاهر، وسناء وارج خلاب أيام غرر وليال مشرقات، وكذلك يختلفون في القباب والأروقة والسرادقات، على هيئة عظيمة فترى أحدهم من الأمراء والكبراء قد أحدق به سرداق كالسور، نسيج كتان كأنه حديقة بستان، وزخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة وهي كلها سواد في بياض، مشرقة ملونة كأنها أزهار رياض لهذا السرادق الذي كالسور المضروب أبواب مرتفعة كأنها أبواب القصور المشيدة يدخل منها إلى دهاليز وتعاريج ثم يفضي منها إلى الفصل الذي فيه القباب فكأن أحدهم ساكن في مدينة قد أحدق بها سور تنتقل بانتقاله، وتنزل بنزوله، وهي من الأبهات الملوكية التي لم تعهد عند ملوك المغرب إلى قباب بديعة لمنظر، عجيبة الشكل، قد قامت كأنها التيجان المنصوبة، أو الأخبية المضروبة، تنقش أحسن النقش وتملأ بأبهى الفرش، ويقعد الراكب فيها مستريحا وأي مستراح وبازائه معادله أو معادلته في مثل ذلك من الشقة الأخرى والقبة مضروبة عليهما ماشية فيهما فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران فعندما يصلان إلى الرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين إن كانا من أهل الترفه والتنعم، فيدخل بهما إلى السرادق وهما راكبان، وينصب لهما كرسي ينزلان عليه فينتقلان من ظل قبة المنزل، دون واسطة هواء يلحقهما، ولا خطفة شمس تصيبهما وناهيك من هذا الترفيه وهذا المحمل النبيه فهؤلاء لا يلقون لأسفارهم وإن بعدت مشقة ولا نصبا، ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبا، ويجب على المجتهدين من القاصدين لهذه لمشاعر الكريمة، والمشاهد العظيمة أن يحملوا أنفيهم مشقة لمشي على الأقدام. فورد في ذلك من الثواب كثير، وقد حج الحسن بن علي رضي الله عنه وعن آبائه الطاهرين خمسا وعشرين حجة ماشياً، والنجائب تقاد، وحج الإمام احمد بن حنبل حجتين ماشيا، وحج علي بن الموفق على قدميه على قدم الفقر إحدى وستين حجة، قال فطفت ليلة متطوعاً، فقلت اللهم أني قد حججت كذا وكذا حجة، وأشهدك أني وهبت رسولك عشرة وأبا بكر عشرة، وعمر عشرة، وعثمان عشرة، والعشرون الباقية لمن لم يقبل حجة في هذا الموسم، وحجة الفريضة اكفيني قال فرأيت الحق سبحانه في المنام فقال لي: يا بن موفق أتتسخى علي وأنا خلقت السخاء أتجود علي وأنا خلقت الجود أتتكرم علي وأنا خلقت الكرم أما علمت يا بن موفق أني غفرت في هذه الليلة لكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبات الناس بالمشعر الحرام هذه الليلة، وهي ليلة الخميس العاشرة لذي حجة فلما وصلوا الصبح غدوا منه إلى منى بعد الوقوف والدعاء لأن مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة في التوجه إلى منى حتى يخرج عنه، ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وهو المستحب، ومنهم من يلتقطها حول مسجد الخيف بمنى، فلما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم نحروا أو ذبحوا، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والصيد والطيب حتى يطوفوا طواف الإفاضة، ثم توجه كثر الناس لطواف الإفاضة، ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني، وأقاموا يرمون الجمار بمنى، فلما كان اليوم الثالث تعجل أكثر الناس في الانحدار إلى مكة قال الله تعالى: [فمن تعجل في يومين فلا إثم عيه، ومن تأخر فلا إثم عليه] ، قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله خفف على الخلق الرجوع عنه إلى الأهل والوطن، ولما علم من علاقة قلوبهم بهم فأعادهم بأبدانهم، وعلق قلوبهم بما عاينوا من مكانهم، وذلك قوله تعالى: [وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا] ، فلا يراه أحد إلا تمنى أن يعود إليه، وإن حمله شوق الأهل وحب الوطن على أن يفارقه، قد رأيت الفراق ذقته وأكلته وشربته، وساورني