ثم عبرنا واديه الكبير، بعد أن لقينا الجهد الكثير، وسرنا سيرا مجدا، لم نأل فيه جهدا، إلى ان اجتمعتنا بالركب الصفدي بخارج حسبان. وصلناها والأصيل قد ولى، وعامل الضلال قد تولى، فبتنا جميعا بها ولم نفرق بين ظهور المطى وقتبها حتى عبث الابتسام بالوجوم، وفاض مهر المجرة على حصباء النجوم، فنهبنا أيدي المطى على سنة السكون وسرنا إلى أن وافينا مدينة) الكرك (المحروسة العيا، التي هي من امنع معقل، في الدنيا، فوصلنا إليها في ضحوة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال المذكور فرأيت مدينة عظيمة الجرم، سامية الرسم، كأنها على مرقب النجم. يحصر دونها الناظر ويقصر عنها العقاب الكاسر يكاد من علاها يعرف حوض الغمام، ويقف على همام السحاب والقتام، متناهية في الحصانة، موصوفة بالوثاقة، ممتنعة على الطلب والطلاب، مختصة بكقرة الحراس وشدة الحجاب منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب صماء عن الراقي، عالية على المرتقى نائية للمراقب لن تزدها الأيام إلا نبو أعطاف، واستصعاب جوانب وأطرف، فهو حمى لا يراع ومعقل لا يستطاع، كأن الأيام صافحتها على الإعفاء من الحوادث، والليالي عاهدتها على التسليم من القوارع ضخمة المأوى رحبة المثوى، معشوقة السكنى رائقة المغنى.
تحسب النجم في دجى الليل زهرا ... في رباها وتحسب الزهر نجما
قد ساوت الفرقد بالوهاد والنجد، وفتحت أبوابها أنقابا في وسط الحجر الصلد، والعجب كل العجب أنها على بعد مرقاها، وسمو مرتقاها، قد اينعت في أعلاها الثمار وتفجرت منها العيون والأنهار فكلما هب فيها النسيم غردت الأطيار.
فهي لا تسئل الغما ... م ولا تشتاق كالأرض كلها آذار
فنزلنا بخارجها في الثنية العلية، وقد وصل بوصلنا المحمل الدمشقي والمركب الحلبي وتألفت هنالك ركبان الشام وأعدت عدة السير لزيارة افضل الأنام عليه أتم الصلاة وأكمل السلام، ثم تجهز الركب الكركي للسير أولا على عادته الحسنة فتجهزت معه مبتغيا بركة التقدم والإسراع وقاصدا السبق أول وافد على تلك البقاع وخرجنا منها ضحوة يوم الاثنين من غد اليوم المذكور وهو اليوم الرابع والعشرون من شوال فسرنا في جيش كثيف وعدة تظاهر تحت أعلام فخمة وطبول هادرة، وأخذنا نجد السير ليلا ونهارا، ونصل السري اظلاما وأقمارا، ونقطع أرضا صحراء مخوفة القطع، جرداء كالنطع، سوداء مثل القطع، يخطي الدليل سمتها، ويضل السبيل عوجها وأمتها نخترق منها كل خرق وسبسب ونموذج فيها عند كل صباح وغيهب وتلك الجمال المباركة تمد أعناقها، وتحدق أحداقها، وتفري من الفيافي أزرارها وأطواقها، وتشكو إليها أسرارها وأشواقها، ويطربها الحداة فتبل دموعها محاجرها وآفاقها:
) تثنى إلى حداتها أعناقها ... كأنها تأخذ عنهم خبرا (
والنوم قد طار عن الأجفان، وكاد يسير بكبد الظمئان اللهفان، ويسري لبيت الرسول من الزوار ولله من الضيفان فأول ماء وردناه من مياه تلك الصحراء كان يعرف بالحساء وهو ماء عذب زلال، حوله أسس وأطلال، تنبئ عن استصعاب أبد، واقتراب من عهد لبد، فبتنا فيه ليلتنا واروينا فيه غلتنا، وسرنا صباحا نجد السير، ونسرع إسراع الطير، لا تستقر بنا حرارة منزل، ولا نبيت بحمى إلا والكري عنا بمعزل، إلى ان وردناه ماء مغان وهو ماء كثير عذب نمير، فبتنا به وقد عزمنا على الرحلة وأتينا صدقاتها نحلة، ثم سرنا في قفر صفر، واقتحمنا صدر فلاة تروع كل سعادة:
ومهامه كالبحر لا أثرا ... فيها لمفتقر ولا سنن
لو سار فيها النجم ضل بها ... حيران لا شام ولا يمن