قال بزر جمهر: حسب ذا الرأي ومن لا رأى له أن يستشير عالماً ويطيعه. مرّ حارثه بن زيد بالأحنف بن قيس فقال: لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر. فقال: يا حارثه أجل، كانوا لايشاورون الجائع حتى يشبع والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمضلّ حتى يجد، والراغب حتى يمنح. كان يقال: استشر عدوّك العاقل، ولا تستشر صديقك الأحمق، فإن العاقل يتقي على رأيه الزّلل، كما يتقي الورع على دينه الجرح. قال ابن المقفع: ثلاثة لا آراء لهم: صاحب الخف الضيق، وحاقن البول وصاحب المرأة السليطة. قال بعض البلغاء: لا نتيجة لرأى إلا عن طاعة ونصيحة، ولا نتيجة لمشورة إلا عن محبة ومودة. وقال بعضهم: لاتترك الأمر مقبلا، وتطلبه مدبراً، فإن ذلك من ضعف العقل وقلة الرأى.
كان يقال: لا تدخل في رأيك بخيلا فيقصّر فعلك، ولا جباناً فيخوّفك مالا تخاف، ولا حريصاً فيعدك مالا يرجى.
قال بعض الأعراب:
ولو أنّ قومى أكرمونى وأتأموا ... سجالاً بها أسقى الذّين أساجل
كففت الأذى ما عشت عن حلمائهم ... وناضلت عن أعراضهم من يناضل
ولكنّ قومى عزّهم سفهاؤهم ... على الرّأى حتّى ليس للرأى حامل
قال النبى صلى الله عليه وسلم: الحزم: في مشاورة ذوى الرّأى وطاعتهم.
قال الملهب: إذا كان الرأى عند من يملكه دون من يبصره ضاعت الأمور.
قال الحكماء: إذا كنت مستشيراً فتوخّ ذا الرأى والنصيحة،فإنه لا يكتفى برأى من لا ينصح، ولا نصيحة لمن لا رأى له.
ولبشار بن برد، وقيل إنها لعنترة، وقيل: إنها للعجّاج الأسدى:
إذا بلغ الرّأى المشورة فاستعن ... برأى نصيحٍ أو نصاحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً ... فإنّ الخوافى رافدٌ للقوادم
وآذن من القربى المقدّم نفسه ... ولا تشهد الشورى امرءًا غير كاتم
وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها ... وما خير سيف لم يوتّد بقائم
فإنّك لا تستطرد الهمّ بالمنى ... ولا تبلغ العليا بغير المكارم
أنشدنى الأعرابي:
وأنفع من شاورت من كلّ ناصحاً ... شفيقاً فأبصر بعدها من تشاور
وليس بشافيك الصّديق ورأيه ... غريبٌ ولاذو الرّأى والصّدر واغر
وقال بكر بن أذينة:
ولا أشير على من لاّ يشاورنى ... إذا طوى ذات يومٍ أمره دونى
قال أكثم بن صيفى: المشورة مادة الرأى.
قال ابن هبيرة لبعض ولده: ولا تشر على مستبدّ، ولا على عدوّ، ولا على متّلون، ولا على لجوج، ولا تكون أول مستشار، ولا أول مشير، وإياك والرأى الفطير، وخف الله في المستشير، فإن التماس موافقه لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.
قال سليمان عليه السلام لابنه: يا بنى لا تقطع أمراً حتى تشاور مرشداً فإنك إذا فعلت ذلك لم تندم.
كان يقال: من اجتهد رأيه وشاور صديقه، قضى ما عليه.
قال عمر بن العاص: ما نزلت بى قطّ عظيمةٌ فأبرمتها حتى أشاور عشرةً من قريش مرتين فإن أصبت كان الحظّ لى دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسى بلائمة.
قال بعض الأعراب:
خليلىّ ليس الرأى في صدر واحد ... أشيرا علىّ اليوم ما تريان
أأركب صعب الأمر إنّ ذلوله ... بنجران لا يقضى بحين أوان
وأظن هذين البيتين من الأعرابى القائل:
لقد هزئت منّى بنجران إذ رأت ... مقامى في الكبلين أمّ أبان
كأن لم تر قبلى أسيراً مكبلاً ... ولا رجلاً يرمى به الرّجوان
وقد تمثل بهذا البيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكتب به إلى بعض أمرائه وقضاته.
كان يقال: أمران جليلان لا يصلح أحداهما إلاّ بالتفرّد، ولا يصلح الآخر إلا بالتّعاون، الملك والرّأى، فإن استقام الملك بالشركاء استقام الرأى بالاستبداد، وهذا لا يكون أبداً.
قال صالح بن عبد القدوس
وإن باب أمرٍ عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه
وإن ناصح منك يوماً دنا ... فلا تنأ عنه ولا تقصه