ومسرةٍ قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
وقال آخر:
كم نعمةٍ لا يستقل بشكرها ... لله في طى المكاره كامنه
روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهمي مولى الزبير، عن عائشة رحمها الله، قالت: لما احتضر أبو بكر قالت:
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال: يا بنية! لا تقولي هكذا، ولكن قولي: " وجاءت سكرة الحق بالموت، ذلك ما كنت منه تحيد ". وكذلك كان يقرأها فيما زعموا. ثم قال: انظروا إلى ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت. وقد روى من وجوه في هذا الخبر أن أبا بكر - رحمه الله - قال لها: قولي: " وجاءت سكرة الموت بالحق " على ما في مصحف عثمان.
قيل لبعض الصالحين - وهو يجود بنفسه -: كيف تجدك؟ وكيف حالك؟ فقال: كيف حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد، ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس، وينطلق إلى رب ملك بلا حجة.
لما احتضر عمر بن الخطاب بكي، فكلمه ابن عباس أو غيره بكلام فيه ثناء عليه، فقال: المغرور من غررتموه، ليت أمي لم تلدني. ثم أوصى بوصايا حسان.
لما احتضر معاوية، قيل له: قل: لا إله إلا الله، فضعف عنها حتى كررت عليه ثلاثاً، كل ذلك لا يقدر يقولها، ثم قال في آخر ذلك: أولست من أهلها؟!.
وفي خبر آخر: أن معاوية لما احتضر، قال لابنه: يا بني! كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخذت من شعره بمشقص، وهو عندي في موضع كذا، فإذا أنا مت فخذوا ذلك الشعر واحشوا فمي ومنخري، ثم قال:
إن تناقش يكن نقاشك يا رب ... عذاباً لا حاق لي بالعذاب
أو تجاوز وأنت رب رحيم ... عن مسىءٍ ذنوبه كالتراب
ثم أغمى عليه، ثم أفاق فقال:
فهل من خالدٍ إما هلكنا ... وهل بالموت يا للناس عار
ثم قال لأهله الذين حضروا: اتقوا الله؛ فإن الله يقى من اتقاه. ثم قضى.
وفي خبر آخر: أن معاوية لما حضرته الوفاة احتوشه أهله، فجعلوا يقبلوا به. فقال: إنكم لتقبلون حولاً قلبا إن نجا من النار. ثم قال: لا يدفع ريب المنية الحيل.
وفي خبر آخر: أنه لما احتضر معاوية، رفع يديه؛ وهو يجود بنفسه، وقال متمثلا:
هو الموت لا منجى من الموت والذي ... أحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وجد بحلمك على من لا يرجو غيرك، ولا يثق إلا بك، فإنك واسع الرحمة، نعفو بقدرة، وما وراءك مذهب لذي خطيئة موبقة، يا أرحم الراحمين.
وفي خبرٍ آخر عن سعيد بن المسيب، قال: لما احتضر معاوية قال: أقعدوني. فأقعد. فجعل يذكر الله، وقال: يا رب! ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي، وعزتك إن لم تغفر لي فقد هلكت، ثم غشى عليه فبكى أهله، ثم أفاق، فأنشأ يقول متمثلاً:
لعمري لقد عمرت في الملك برهةً ... ودنت لي الدنيا بوقع البواتر
وأضحى الذي قد كان منى يسرني ... كلمحٍ مضى في السالفات الغوابر
فاليتني لم أغن في الملك ساعةً ... ولم أغن في لذات عيشٍ نواضر
وكنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ ... من الدهر حتى زار ضيق المقابر
ثم مات رحمه الله: لما احتضر عمرو بن العاص قال: اللهم أمرتني فلم ائتمر، وزجرتني فلم أزدجر، ووضع يده في موضع الغل، فقال: اللهم لا قوى فأنتصر، ولا برئ فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت. فلم يزل يرددها حتى مات. رحمه الله.
وفي خبر آخر، قيل لعمرو بن العاص في مرضه الذي مات فيه: كيف تجدك؟ قال: أجدني أذوب ولا أثوب. فلما قربت نفسه من أن تفيض قال له ابنه: قد كنت تحب أن ترى عاقلاً فطناً قد احتضر؛ فتسأله عما يجد المحتضر وقد احتضرت، وأنا أحب أن تصف لي الموت. فقال: أجد كأن المساء منطبقة على الأرض، وكأني أتنفس من خرم إبرة.
لما نزل بهشام بن عبد الملك الموت، نظر إلى ولده يبكون حوله، فقال لهم: جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما اكتسب، ما أعظم منقلبه إن لم يغفر الله له.