قال سهل بن هارون: التهنئة على آجل الثواب أولى من التعرية على عاجل المصيبة.

قال عيينة بن حصن الفزاري، وقد قدم من سفر، وقد أصابه مصيبة، فأتاه قومه فقال لهم: اجعلوا لقاءكم سلاماً، ولا يأتي أحدكم معزياً، فإن التعزية تهيج التذكرة، ومن أراد أن يدعو بخير في الرزية فليظهر العتب.

أصيب محمود الوراق بجارية يقال لها نشوى، كان علمها وخرجها وأعطى فيها مالا كثيراً فأبى، فأتى بعض إخوانه يعزيه عنها، وهو عنده أنه شامت، فجعل يعذله على ما كان يحمل إليه من ثمنها ويذكر حاله، ويطنب في وصفها، فأنشأ محمود يقول:

ومنتصح يكرر ذكر نشوى ... على عمدٍ ليبعث لي اكتئابا

فقلت وعد ما كانت تساوي سيحسب ذاك من خلق الحسابا

عطيته إذا أعطى سرور ... وإن أخذ الذي أعطى أثابا

فأي النعمتين أعم فضلا ... وأحمد في عواقبها إيابا

أنعمته التي أهدت سروراً ... أم الأخرى التي أهدت ثوابا

بل الأخرى وإن نزلت بكرهٍ ... أحق بشكر من صبر احتسابا

وقال محمود أيضاً في نشوى:

لعمري لئن غال صرف الزمان ... نشوى لقد غال نفساً حبيبه

ولكن علمي بما في الثواب ... عند المصيبة ينسى المصيبة

روى يحيى القطان، عن خالد بن أبي عثمان، قال: أتاني سعيد بن جبير يعزيني عن أبي، فرآني مستكيناً، فقال لي: أما علمت أن الاستكانة من الجزع.

كان علي رحمه الله إذا عزى قوماً قال: عليكم بالصبر؛ فبه يأخذ الحازم، وإليه منصرف الجازع.

ولما دفن علي فاطمة رضى الله عنهما تمثل على قبرها بهذين البيتين:

لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل

وإن افتقادي واحداً بعد واحدٍ ... دليل على ألا يدوم خليل

يقال: إنها له، وقال ابن الأعرابي: هي أبيات لسقران السلاماني.

كان يقال: جزعك على مصيبة أخيك أحمد من صبرك، وصبرك على مصيبتك أحمد من جزعك.

ومن أبيات لضابئ بن الحارث البرجمي:

ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب

عزى رجل رجلاً فقال: لا أراك الله بعد مصيبتك ما ينسيكها.

قال بعض تميم:

لقد عزى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود

ومن عجبٍ قصدن له المنايا ... على عمدٍ، وهن له جنود

أخذه يعقوب بن الربيع في رثائه جاريته، فقال:

لئن كان قربك لي نافعاً ... لبعدك أصبح لي أنفعا

لأني أمنت رزايا الدهور ... وإن جل خطب فلن أجزعا

وقال محمود الوراق:

لا تطل الحزن على فائتٍ ... فقلما يجدي عليك الحزن

سيان محزون لما قد مضى ... ومظهر حزنٍ لما لم يكن

وقال أخو ذي الرمة:

تعزيت عن أوفى بغيلان بعده ... عزاءً وجفن العين ملآن مترع

ولم تنسني أوفى المصائب بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع

وقال آخر:

أترجو البقاء وهذا محال ... ولله عز وجل البقاء

فلو كان للفضل يبقى كريم ... لما مات من خلقه الأنبياء

تموت النفوس وتبقى الشخوص ... وعند الحساب يكون الجزاء

دخل أبو العتاهية على الفضل بن الربيع يعريه بابنه العباس، فقال: الحمد الله الذي جعلنا نعريك عنه، ولم يجعلنا نعزيه عنك. فدعا الفضل بالطعام فأكل، وقد كان قبل ذلك امتنع من الأكل.

ومن أحسن ما قيل في رثاء البنين قول العتبي:

ألا يزجر الدهر عنا المنونا ... يبقى البنات ويفنى البنينا

وأخنى على بلا رحمةٍ ... فلم يبق لي فوق جفنٍ جفونا

وكنت أبا صبية كالبدور ... أفقي بهم أعين الكاشحينا

فمروا على حادثات الزمان ... كمر الدراهم بالناقدينا

وما زال ذلك دأب الزمان ... حتى أماتهم أجمعينا

وحتى بكى لي حسادهم ... وقد أقرحوا بالدموع العيونا

وحسبك من حادثٍ بامرئٍ ... ترى حاسديه له راحمينا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015