أقبل وَفِي يَده الْيُمْنَى قنديل وَفِي الْيُسْرَى غل حَتَّى توَسط الْمَقَابِر ثمَّ رمى بطرفه شاخصا وَقَالَ سَلام عَلَيْكُم أهل مضايق اللحود ومطعم الْبلَاء والدود مَا أبعد سفركم وَمَا أوحش طريقكم فليت شعري مَا حالكم ارتهنتم بأعمالكم وقطعتم دون آمالكم بل لَيْت شعري أندم الْحَيَاة حل بكم أم فَرح الْبُشْرَى بالقدوم على ربكُم
سبقتمونا فلبيتم وأجبتم قبلنَا إِذْ دعيتم وَنحن للقدوم عَلَيْكُم منتظرون وللمنهل الَّذِي وردتموه وَارِدُونَ فَبَارك الله لنا وَلكم على الْقدوم عَلَيْهِ ورحمنا إِذا صرنا إِلَى مَا صرتم إِلَيْهِ
ثمَّ نزل فِي قبر قد احتفره لنَفسِهِ فَوضع خَدّه على شَفير اللَّحْد وَجعل يُنَادي يَا ويلتى إِذا دخلت فِي قَبْرِي وحدي ونطقت الأَرْض من تحتي فَتَقول لي لَا مرْحَبًا وَلَا أَهلا وَلَا سَعَة وَلَا سهلا بِمن كنت أمقته وَهُوَ على ظَهْري فَكيف وَقد صرت الْيَوْم فِي بَطْني لأضيقن عَلَيْك أرجائي ولأذيقنك مَكْرُوه بلائي
ويلي إِذا خرجت من لحدي حَامِلا وزري على ظَهْري وَقد تَبرأ مني أبي وَأمي
بل ويل من طول كذبي إِذا أسمعني مُنَادِي رَبِّي أَيْن فلَان بن فُلَانَة فأبرزت من بَين جيرتي وَقد بَدَت إِلَى النَّاس سريرتي وَقمت عُريَانا ذليلا وقاسيت كربا طَويلا
ثمَّ أساق إِلَى أَرض القيامه للعرض وَالْوُقُوف بَين يَدي جَبَّار السَّمَوَات وَالْأَرْض
ويلي إِذا وقفت أَمَام رَبِّي فَقَالَ لي عَبدِي استترت بمعصيتي عَن المخلوقين وبارزتني بهَا وَأَنا عَلَيْك من أكبر الشَّاهِدين أفكنت عَلَيْك من أَهْون الناظرين إِلَيْك ثمَّ خر مغشيا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ يَا ذخري وَيَا ذخيرتي وَمن هُوَ أعلم بطويتي وسريرتي يَا من عَلَيْهِ اعتمادي فِي حَياتِي وَمن إِلَيْهِ ألجأ بعد مماتي لَا تخذلني بعد الْمَوْت وَلَا توحشني فِي قَبْرِي يَا سامع كل صَوت فَلَمَّا سمع ابْن عَبَّاس مقَالَته لم يَتَمَالَك أَن سعى حَتَّى وقف على شَفير الْقَبْر وَجعل يُنَادي لبيْك لبيْك حَبِيبِي مَا أنبشك للذنوب والخطايا هَكَذَا تنبش الذُّنُوب وتمزق الْخَطَايَا
ثمَّ الْتفت إِلَى الَّذِي سعى بِهِ وَقَالَ لَهُ يَا عبد الله هَكَذَا فَاصْنَعْ كلما علمت بِمثل هَذَا النباش فأرشده إِلَى ابْن عَبَّاس فَمَا أحبه وآثره لَدَيْهِ يَا لَيْت كل النابشين مثله
وَأَنْشَأَ يَقُول
(قف بِنَا بالقبور نبكي طَويلا ... ونداوي بالدمع دَاء جَلِيلًا)
(فَعَسَى الدمع أَن يبرد منا ... بعض لوعاتنا ويشفى الغليلا)
(وننادي الأحباب كَيفَ وجدْتُم ... سكرة الْمَوْت بَعدنَا والمقيلا)