أَنَّ التَّقْلِيدَ رُخْصَةٌ وَالتَّرْكَ عَزِيمَةٌ وَقَدْ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَحَامَى مِنْهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرْكُ الدُّخُولِ أَصْلَحُ دِينًا وَدُنْيَا وَفِي الْهِدَايَةِ الدُّخُولُ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ» وَعَنْ مَسْرُوقٍ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا وَاحِدًا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَنَةٍ أَغْزُوهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (وَالْعَزِيمَةُ تَرْكُهُ) فَلَعَلَّهُ يُخْطِئُ ظَنُّهُ فَلَا يُوَافِقُ لَهُ أَوْ لَا يُعِينُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ كَذَا نُقِلَ عَنْ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ
وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ إنَّ مَرْتَبَةَ الْقَضَاءِ شَرِيفَةٌ وَمَنْزِلَتَهُ رَفِيعَةٌ لِمَنْ اتَّبَعَ الْحَقَّ وَحَكَمَ عَلَى عِلْمٍ بِغَيْرِ هَوًى وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَفِيهِ أَيْضًا قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ مُتَعَمِّدًا أَوْ قَضَى مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَهُمَا فِي النَّارِ فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ اجْتَهَدَ فِي الْحَقِّ عَلَى عِلْمٍ فَأَخْطَأَ فَلَيْسَ فِي النَّارِ بَلْ يُؤْجَرُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَفِي مُعِينِ الْحُكَّامِ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَضَاءَ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي يُبَاحُ الْحَسَدُ عَلَيْهَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيَعْمَلُ بِهَا» وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَعَنْ أَبَوَيْهَا هَلْ تَدْرُونَ مَنْ السَّابِقُونَ إلَى ظِلِّ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ وَإِذَا سُئِلُوا بَذَلُوهُ وَإِذَا حَكَمُوا لِلْمُسْلِمِينَ حَكَمُوا كَحُكْمِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى يَمِينِ الْعَرْشِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ عَامًا وَمُرَادُهُ إذَا قَضَى يَوْمًا بِالْحَقِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَدْلُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَجْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] فَأَيُّ شَيْءٍ أَشْرَفُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَمَّ اللَّهُ مَنْ امْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ فَقَالَ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] وَمَا فِيهِ تَخْوِيفٌ وَوَعِيدٌ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ قُضَاةِ الْجَوْرِ وَالْجُهَّالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاء فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» فَقَدْ أَوْرَدَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مَعْرِضِ التَّحْذِيرِ مِنْ الْقَضَاءِ وَقَالَ بَعْضٌ دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ الْقَضَاءِ وَعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ لِأَنَّهُ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْ قَضَى بِالْحَقِّ إذْ جَعَلَهُ ذَبِيحَ الْحَقِّ امْتِحَانًا لِتَعْظِيمِ الْمَثُوبَةِ امْتِنَانًا فَالْقَاضِي لَمَّا اسْتَسْلَمَ لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَبَرَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فِي خُصُومَاتِهِمْ فَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ حَتَّى قَادَهُمْ عَلَى أَمْرِ الْحَقِّ وَكَلِمَةِ الْعَدْلِ وَكَفَّهُمْ عَنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالْعِنَادِ جُعِلَ ذَبِيحَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَلَغَ بِهِ حَالَ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَهُمْ الْجَنَّةُ وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَمُعَاذًا وَمَعْقِلًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - الْقَضَاءَ فَنِعْمَ الذَّابِحُ وَنِعْمَ الْمَذْبُوحُونَ.
وَالْجَوْرُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ أَعْيَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ وَأَبْغَضَ النَّاسِ إلَى اللَّهِ وَأَبْعَدَ النَّاسِ مِنْ اللَّهِ رَجُلٌ وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمْ» وَعَنْ بَعْضٍ: الْقَضَاءُ مِحْنَةٌ وَمَنْ دَخَلَ فِيهِ فَقَدْ اُبْتُلِيَ بِعَظِيمٍ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ أَوْ التَّخْلِيصِ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرٍ سِكِّينٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَقَدْ ذُبِحَ بِالسِّكِّينِ» وَعَنْ بَعْضٍ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ الْبُعْدُ وَالْهَرَبُ مِنْهُ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي قِلَابَةَ وَغَيْرِهِمَا لِعِلْمِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الضَّعْفَ وَعَدَمَ الْعِصْمَةِ مِنْ خَطَرِهِ.
كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْعَزِيمَةُ أَيْ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى تَرْكُهُ لِأَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَنْفَكُّ عَنْ الْمَيْلِ لِلصَّدِيقِ عَنْ الْعَدُوِّ وَالتَّشَوُّقِ إلَى أَغْرَاضِ الِانْتِقَامِ فِي أَدْرَاجِ الْأَحْكَامِ وَالسَّلَامَةُ عَنْهُمَا مُعْتَذِرَةٌ وَقَدْ قِيلَ لَا خَيْرَ فِيمَنْ يَرَى