«، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا، وَهِيَ رَاغِمَةٌ» ذَلِيلَةٌ مُكْرَهَةٌ يُعْنَى تَنْقَادُ إلَيْهِ الدُّنْيَا مَقْهُورَةً مُحَقَّرَةً كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» «وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ» بِأَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي نَصْبِ عَيْنِهِ وَمَطْمَحِ نَظَرِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ حَاصِلَ وَقْتِهِ إلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكُونَ عَامَّةَ فِكْرِهِ وَتَأَمُّلِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّرْعِيَّاتُ فِي نَظَرِهِ كَالْعَادِيَاتِ الْغَيْرِ الْمُهِمَّةِ «جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» كَأَنَّهُ كَشَيْءٍ غَيْرِ مُنْفَكٍّ عَنْهُ بَلْ كَشَيْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ «، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ» أَيْ مَا اجْتَمَعَ بِأَنْ يَجْعَلَ أُمُورَهُ صَعْبَةً كَأَنْ يَجْعَلَ قَضَايَاهُ مَعْكُوسَةً وَآمَالَهُ مَقْلُوبَةً «، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» فَلَا يُفِيدُ جَدُّهُ وَسَعْيُهُ فِي إتْيَانِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ قِيلَ يَعْنِي جَعَلَ الْفَقْرَ لَا يَزُولُ، وَلَا يَبْرَحُ عَنْ مَطْمَحِ نَظَرِهِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنْ الْمَالِ مَهْمَا أُوتِيَ فَلَا يَزَالُ خَائِفًا مِنْ الْفَقْرِ.
وَعَنْ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ رِزْقُك مِثْلُ ظِلِّك إنْ طَلَبْته تَبَاعَدَ، وَإِنْ تَرَكْته تَتَابَعَ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَلَا يُسَمَّى إلَّا فَقِيرًا وَمَا يُصْبِحُ إلَّا فَقِيرًا» أَيْ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ إلَّا حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا لِعَدَمِ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يُنَادِي مُنَادٍ دَعُوا» أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «الدُّنْيَا لِأَهْلِهَا» أَيْ اُتْرُكُوهَا لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ حَظَّهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ نَصِيبًا فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَتَشَارَكُوا مَعَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَشَارَكُونَ مَعَكُمْ فِي آخِرَتِكُمْ (ثَلَاثًا) قَالَهُ ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ تَمْكِينًا فِي الْخَاطِرِ أَيُّهَا مَا لِعَدَمِ زَوَالِهِ مِنْ الْخَاطِرِ إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ زِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ لِمَعْنًى تَأَمَّلْ. (مَنْ أَخَذَ الدُّنْيَا) أَيْ مِنْ الدُّنْيَا كَمَا فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ) لِنَفْسِهِ وَمَنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَئُونَتَهُ (أَخَذَ حَتْفَهُ) أَيْ سَبَبَ مَوْتِهِ، وَهَلَاكِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ هَلَاكُهُ إذْ هِيَ السُّمُّ الْقَاتِلُ فَطَلَبُهَا شَيْنٌ، وَقِلَّتُهَا زَيْنٌ فَإِنْ طَلَبَهَا لِيَطْلُبَ بِهَا الْبِرَّ، وَفِعْلَ الصَّنَائِعِ وَاكْتِسَابَ الْمَعْرُوفِ كَانَ عَلَى خَطَرٍ وَغُرُورٍ وَتَرْكُهُ لَهَا أَبْلَغُ فِي الْبِرِّ ثُمَّ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ.
(خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ» أَيْ يَكْبُرُ سِنُّهُ «وَيَشُبُّ مِنْهُ» مِنْ الشَّبَابِ «اثْنَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ» ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ خَصْلَتَانِ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْعُمُرِ وَطُولُ الْأَمَلِ» فَالْحِرْصُ فَقْرُهُ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَالْأَمَلُ تَعَبُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَذْهَبْ هَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ جُبِلَ عَلَى الشَّهَوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا تُنَالُ هُنَا بِالْمَالِ وَالْعُمُرِ وَالنَّفْسُ مَعْدِنُ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَانِيُّهَا لَا تَنْقَطِعُ فَهِيَ أَبَدًا فَقِيرَةٌ لِتَرَاكُمِ الشَّهَوَاتِ عَلَيْهَا قَدْ بَرِحَ بِهَا خَوْفُ الْفَوْتِ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا فَهِيَ مَفْتُونَةٌ بِذَلِكَ وَحَصَلَتْ فِتْنَتُهَا إلَى الْقَلْبِ فَأَصَمَّتْهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْمَتْهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ ظُلُمَاتٌ ذَاتُ رِيَاحٍ خَفَّاقَةٍ وَالرِّيحُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْأُذُنِ أَصَمَّتْ وَالظُّلْمَةُ إذَا حَلَّتْ بِالْعَيْنِ أَعْمَتْ فَلَمَّا وَصَلَتْ هَذِهِ الشَّهْوَةُ إلَى الْقَلْبِ حَجَبَتْ النُّورَ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا قَذَفَ فِي قَلْبِهِ النُّورَ فَتَمَزَّقَ الْحِجَابُ.
(خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ» يَعْنِي إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطُبِعَ جِنْسُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ وَخَوَاصُّ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَكُونُونَ نَقْضًا لِذَا