وَفِي الْآخَرِ بِالْآخَرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ نَافِعٍ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الْإِتْقَانِ بِنَاءً عَلَى الْأَثَرِ الْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَهُ لِحِكْمَةٍ وَلَا يَتْرُكُهَا إلَّا إذَا وَرَدَ فِي أَثَرٍ، وَإِنْ جَازَ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ نَعَمْ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لِأَجَلِ الْقِرَاءَةِ وَبَيْنَ مَا لِأَجَلِ الِاحْتِجَاجِ (الْآيَاتُ) فِي الْحُجُرَاتِ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فَالسَّابِقُ فِي التَّقْوَى هُوَ السَّابِقُ فِي الْفَضْلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّقْوَى بِهَا تَكْمُلُ النُّفُوسُ وَتَتَفَاضَلُ الْأَشْخَاصُ فَمَنْ أَرَادَ شَرَفًا فَلْيَلْتَمِسْ مِنْهَا كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ» وَفِي الْآثَارِ أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ وَفِيهَا أَيْضًا أَكْرَمُ الْكَرَمِ التَّقْوَى وَسَتَعْرِفُ تَفْصِيلَ مَعْنَى التَّقْوَى مِنْ الْمُصَنِّفِ
ثُمَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ هَذِهِ الْآيَةِ قُوَّةُ دَلَالَتِهَا عَلَى فَضْلِ التَّقْوَى عَلَى وَجْهٍ لَا فَضْلَ فَوْقَ فَضْلِهَا إذْ الْفَرْدُ السَّابِقُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْفَضْلِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْبِقَهُ شَيْءٌ آخَرُ فِي الْكَرَمِ عِنْدَ اللَّهِ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى فَضْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْجَمِيعِ حَيْثُ نَزَلَ - {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17] {الَّذِي} [الليل: 18]- الْآيَةَ فِي حَقِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَبُو بَكْرٍ أَتْقَى بِهَذَا الْآيَةِ وَكُلُّ أَتْقَى أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ بِتِلْكَ الْآيَةِ فَأَبُو بَكْرٍ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْأَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ.
وَعَنْ الْوَاحِدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَرْتُكُمْ فَضَيَّعْتُمْ مَا عَهِدْت إلَيْكُمْ فِيهِ وَرَفَعْت أَنْسَابَكُمْ فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ أَنْسَابَكُمْ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] » وَفِي الْمَائِدَةِ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] عَنْ الْكُفْرِ أَوْ سَائِرِ الْمَعَاصِي فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ، وَإِنْ الثَّانِي فَإِضَافِيٌّ أَوْ ادِّعَائِيٌّ فَالْقَوْلُ أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ بِظَاهِرِهِ لَيْسَ بِحَسَنٍ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ مَا عَرَفْت فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَبُولِ عَمَلِ الْمُتَّقِينَ؛ وَلِهَذَا تَرَى قَبُولَ دَعَوَاتِ الصَّالِحِينَ أَكْثَرَ لَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَخَدَّامُهُ الْخَوَاصُّ
وَفِي الْأَنْفَالِ {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ} [الأنفال: 34] أَيْ مَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ {إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] مِنْ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ فَيَشْكُلُ بِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ هُنَا مِنْ التَّقْوَى فِي الْمَطْلُوبِ هُوَ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ عِنْدَ إطْلَاقِ الشَّرْعِ مِنْ نَحْوِ الِاجْتِنَابِ مِنْ كُلِّ حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ عَلَى مَا سَيُفْهَمُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِتَامٍّ أَوْ تَفْسِيرُ الْبَيْضَاوِيِّ بِالِاتِّقَاءِ مِنْ الشِّرْكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ أَيْضًا فَالْوَجْهُ الْأَسْلَمُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُعْبَأُ بِمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ مَا أَمْكَنَ إرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ بِنَاءً عَلَى الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ الْمُتَبَادِرِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ التَّفْسِيرُ بِالِاتِّقَاءِ عَنْ الْكُفْرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَإِذَا قَصُرَتْ وِلَايَةُ اللَّهِ عَلَى الِاتِّقَاءِ فَالِاتِّقَاءُ لَهُ زِيَادَةُ فَضْلٍ وَغَايَةُ شَرَفٍ
فَإِنْ قِيلَ الرَّاجِحُ مِنْ كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ رُجُوعُ ضَمِيرِ أَوْلِيَاؤُهُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَطْلُوبِ وَقَدْ قِيلَ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ قُلْنَا بَعْدَ تَسْلِيمِ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِوِلَايَةِ اللَّهِ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ الْوِلَايَةُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لَهُ تَعَالَى وَفِي الْجَاثِيَةِ {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19] أَيْ نَاصِرُ الْمُوَحِّدِينَ النَّاصِرِينَ أَوْ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشِّرْكَ كَمَا فَسَّرُوا بِهِ فَالْكَلَامُ كَمَا سَمِعْت وَفِي بَرَاءَةٍ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] فِي أَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ كَمَا نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ وَفِي نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْخَازِنِ وَفِي النَّجْمِ {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] فَلَا تُثْنُوا عَلَيْهَا بِزَكَاءِ الْعَمَلِ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ أَوْ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ أَوْ لَا تَدْعُوَا بِلَا عَمَلٍ أَوْ لَا تُخْبِرُوا بِخَبَرٍ عَمِلْتُمُوهُ
رُوِيَ أَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ سُمِّيتُ بَرَّةً فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.