(فَمَا ظَنُّك بِسَائِرِ الْعُلُومِ الْغَيْرِ الزَّاجِرَةِ) كَالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ قَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَالْبُعْدَ مِنْ اللَّهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ ازْدَادَ عِلْمًا وَلَمْ يَزْدَدْ زُهْدًا فَإِنَّمَا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا» وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَسُوغُ إهْمَالُ عِلْمِ الزُّهْدِ عِنْدَ اشْتِغَالِ أَيِّ عِلْمٍ كَانَ وُجُوبًا أَوْ اسْتِحْبَابًا كَمَا عَرَفْت
(وَفِي التَّجْنِيسِ رَجُلٌ تَفَقَّهَ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَامْتَنَعَ عَنْ التَّعْلِيمِ فَإِنْ كَانَ النَّاسُ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِغَيْرِهِ) بِسَبَبِ تَعْلِيمِ الْغَيْرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ (أَجْزَأَهُ) أَيْ الِاشْتِغَالُ مَعَ الِامْتِنَاعِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْإِجْزَاءِ إشَارَةٌ إلَى أَدْنَى الْجَوَازِ إذْ الْإِتْيَانُ فَرْضُ كِفَايَةٍ (كَمَا فَعَلَهُ دَاوُد الطَّائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةِ طَيِّئٍ كَحَاتِمٍ الطَّائِيِّ (فَإِنَّهُ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ (ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ) لِوُجُودِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْغَيْرِ (وَاعْتَزَلَ النَّاسَ) عَنْ اخْتِلَاطِهِمْ وَأُنْسِهِمْ لَا كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ تَرْكِ نَحْوِ الْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَاتِ لِكَمَالِ الْعُزْلَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَأَمَّا الْوَحْشَةُ إلَى الْجِبَالِ، وَالْمَفَاوِزِ الَّتِي لَا عُمْرَانَ فِي قُرْبِهَا فَالتَّرْكُ وَإِنْ جَازَ حِينَئِذٍ لَكِنْ لَعَلَّهُ تَرْكُ الْأَفْضَلِ إذْ فِعْلُ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ النَّوَافِلِ فَضْلًا عَنْ الْفَرَائِضِ، وَالْوَاجِبَاتِ فَإِيثَارُ فَضْلٍ يَدْعُو إلَى تَرْكِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْوَاجِبَاتِ تَرْكُ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ الْفَاضِلِ (وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالتَّعْلِيمِ) لِاقْتِضَائِهِ الصُّحْبَةَ بِالْغَيْرِ وَكُلُّ رَدِيءِ الْخُلُقِ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا.
(وَهَذَا) أَيْ الْإِجْزَاءُ (لِأَنَّهُ) أَيْ طَرِيقُ اشْتِغَالِ الْعِبَادَةِ فَقَوْلُهُ (أَخْذٌ) لَيْسَ بِفِعْلٍ بَلْ مَصْدَرٌ وَخَبَرَانِ (بِالْفَضْلِ وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيمُ أَفْضَلَ) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُ هُوَ ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ اشْتِغَالِ التَّعْلِيمِ لِلْعِبَادَةِ وَقَدْ سَمِعْت مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا ذُكِرَ (لِأَنَّ نَفْعَهُ أَوْفَرُ) لِتَعَدِّيهِ دُونَ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا قَاصِرَةٌ (فَلَا يَكُونُ بِهِ بَأْسٌ) .
وَفِي التَّعْبِيرِ إشَارَةٌ إلَى أَوْلَوِيَّةِ التَّرْكِ كَمَا هُوَ حَالُ الْفَاضِلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَفْضَلِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَاوُد مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَسَنِّنَةِ وَهُمْ يَلْتَزِمُونَ عَزَائِمَ كُلِّ الْأَعْمَالِ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا الرُّخَصَ كَالْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ارْتِكَابُ مَا لَا بَأْسَ.
أَقُولُ قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الْعَكْسِ عِنْدَهُمْ (انْتَهَى) .
(وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ إلَى الْغَيْرِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرَةِ؛ لِأَنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ) اقْتِبَاسٌ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» وَتَلْمِيحٌ إلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» ، وَالْحَدِيثَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الثَّانِي أَيْ بِالْهِدَايَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّعْلِيمِ لِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّرَحُّمِ، وَالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْإِحْسَانَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى فَضْلِ قَضَاءِ حَوَائِجِ الْخَلْقِ وَنَفْعِهِمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ عِلْمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ إشَارَةٍ أَوْ نُصْحٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَلَى خَيْرٍ أَوْ إعَانَةٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ تَحْتَ ظِلَالِهِ ... فَأَحَبُّهُمْ طُرًّا إلَيْهِ أَبَرُّهُمْ لِعِيَالِهِ
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِمَا حَاصِلُهُ الْإِحْسَانُ بِالْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالنَّفْعِ الدِّينِيِّ، وَالدُّنْيَوِيِّ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِمَامَ الْعَادِلَ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لِوُفُورِ نَفْعِهِ لِلْعَامِّ، وَالْخَاصِّ هَذَا. ثُمَّ أَقُولُ إنْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ بِلَا رُجُوعٍ إلَى النَّقْلِ فَمِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْمَطْلَبِ النَّقْلِيِّ الشَّرْعِيِّ بِالْعَقْلِيِّ فَلَيْسَ بِجَائِزٍ سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِشَرْعِيَّةِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَأَنَّ النَّقْلِيَّةَ ابْتِدَاءً أَوْ رُجُوعًا كَمَا نَبَّهَ آنِفًا فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْعِلْمِ بَلْ شَامِلٌ لِبَعْضِ الْعَمَلِ، وَقَدْ سَمِعْت بَيَانَ شَارِحِ الْحَدِيثِ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ كَمَا يَقْتَضِي إطْلَاقَ صِيغَتَيْ الْحَدِيثَيْنِ وَقَدْ قَالَ شَارِحُهُ عَنْ الْمِيزَانِ إنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ وَاهٍ وَعَنْ ابْنِ عَدِيٍّ لَهُ مَنَاكِيرُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ الثِّقَاتِ الطَّامَّاتِ وَعَنْ الْهَيْثَمِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ