سِيَّمَا عِنْدَ نُدْرَةِ أَهْلِهِ (انْتَهَى) كَلَامُ التَّجْنِيسِ لَا كَلَامَ قَبْلُ كَمَا تُوُهِّمَ لَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْخُرُوجِ، وَالْمَنْفَعَةِ لَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآخِرَةُ فَإِنْ أُرِيدَ الْإِطْلَاقُ فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهَا نِيَّةً مُقَيَّدَةً وَإِنْ أُرِيدَ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ فَرَاجِعٌ إلَيْهِ لَعَلَّ لِهَذَا مَرَضِهِ فَأُخِّرَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلِ وَبِمَا ذُكِرَ عَرَفْت عَدَمَ اتِّحَادِهِمَا بَلْ تَلَازُمَهُمَا كَمَا تَوَهَّمَ.
(وَفِي بُسْتَانِ الْعَارِفِينَ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَصْحِيحِ النِّيَّةِ) لِمُزَاحَمَةِ الْغَوَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَمُعَارَضَةِ الْأَوْهَامِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ (فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ) لِأَجْلِ عَدَمِ الْخُلُوصِ إذْ ضَرَرُ الْجَهْلِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ عَدَمِ خُلُوصِ النِّيَّةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الضَّرَرَيْنِ ارْتِكَابُ الْأَخَفِّ كَمَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَفْسَدَتَيْنِ كَذَلِكَ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ (لِأَنَّهُ إذَا تَعَلَّمَ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يُرْجَى) وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ (أَنْ يُصَحِّحَ الْعِلْمُ) فَاعِلُ يُصَحِّحُ (نِيَّتَهُ) فَإِنَّ الْعِلْمَ إذَا خَلَا عَنْ الْمَوَانِعِ وَخُلِّيَ وَطَبْعُهُ يَنْفِي الْمَفَاسِدَ.
وَالْمَانِعُ أَمْرٌ عَرَضِيٌّ فَعَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ (قَالَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) تَأْيِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ إذْ هُوَ مِنْ التَّابِعِينَ يَصْلُحُ كَلَامُهُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَنَا سِيَّمَا فِيمَا لَا يُعْلَمُ خِلَافُ غَيْرِهِ وَقَدْ كَانَ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ عَلَى الْأَصَحِّ (طَلَبْنَا الْعِلْمَ وَمَا لَنَا فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النِّيَّةِ) يَعْنِي لَيْسَ لَنَا عِنْدَ طَلَبِ الْعِلْمِ نِيَّةٌ كَامِلَةٌ تَامَّةٌ مَحْمُودَةٌ أَيْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى تَصْفِيَةِ نِيَّتِنَا فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ أَوْ لَيْسَ لَنَا نِيَّةٌ حَمِيدَةٌ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ (ثُمَّ رَزَقَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ) فِي الْعِلْمِ (تَصْحِيحَ النِّيَّةِ) بِقُوَّةِ الْعِلْمِ وَتَصَرُّفِهِ فِيمَا هُوَ لَهُ أَوْ بِمُقَاسَاةِ الْغَيْرِ وَبِتَجْرِبَةِ عَدَمِ ثَمَرَتِهِ أَوْ بِبُلُوغِ السِّنِّ إلَى رُتْبَةِ الِانْحِطَاطِ الَّتِي يَنْتَهِي عِنْدَهَا تَوَقُّدُ نِيرَانِ آمَالِهِ وَتَنْطَفِئُ سَوْرَةُ أَمَانِيه (انْتَهَى وَفِيهِ) أَيْ الْبُسْتَانِ.
(قَالَ بَعْضُهُمْ) سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى) امْتَنَعَ (الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى) الظَّاهِرُ أَنَّ الْفَاءَ فِي فَأَبَى بِمَعْنَى ثُمَّ إذْ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْإِبَاءَ لَيْسَ فِي فَوَرَانِ حُصُولِ الْعِلْمِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي نَفْسِهِ سِيَّمَا عَنْ مِثْلِ سُفْيَانَ لَكِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْوِجْدَانِيَّاتِ تَصْلُحُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الظَّنِّيَّةِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَرَّرَ فِي الْمِيزَانِيَّةِ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِمَّنْ يَحْسُنُ بِهِ الظَّنُّ لِعِلْمِهِ أَوْ صَلَاحِهِ وَرِيَاضَتِهِ مِنْ الْخَطَابَةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا تَرْغِيبُ الْجُمْهُورِ إلَى مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ وَكَذَا تَنْفِيرُ الشَّرِّ وَسُفْيَانُ مِنْ كِبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَعُظَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ (وَالظَّاهِرُ) مِنْ قَوْلِ هَذَا الْبَعْضِ تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ (أَنَّ مُرَادَهُ) بِالْعِلْمِ عَلَى مَا قِيلَ لَعَلَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِ الْبُسْتَانِ فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ إلَى آخِرِهِ.
قَالَ الْمُحَشِّي فِي فَائِدَةِ هَذَا الْقَوْلِ: لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْفَقِيهِ شَامِلًا لِكُلِّ عِلْمٍ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ إعْلَامَ مُرَادِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْخَبْطِ مَنْ كَانَ قَاصِرَ النَّظَرِ.
قَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ عَدَمُ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ الزَّاجِرَةِ فَالْأَفْضَلِيَّةُ فِي جَانِبِ التَّرْكِ. أَقُولُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ غَيْرِ الزَّاجِرَةِ مُقَدَّمَاتِ تِلْكَ الزَّاجِرَةِ وَمَبَادِئِهَا كَالْعَرَبِيَّةِ فَقَوْلُهُ وَلَمْ يَكُنْ كُلُّهُ كَذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَأَنَّ غَيْرَهَا كَالْفَلْسَفِيَّاتِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُلُّ عِلْمٍ يَصِحُّ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ إذْ بَعْضُهُ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً وَلَا يَكُونُ صَلَاحُهُ بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ.
(الْعُلُومُ الزَّاجِرَةُ) الْفِقْهُ، وَالتَّصَوُّفُ وَالتَّفْسِيرُ، وَالْحَدِيثُ، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ الْأَوَّلِ كَمَا تُوُهِّمَ مَعَ عَدَمِ اسْتِقَامَتِهِ فِي نَفْسِهِ لَا يُلَائِمُهُ قَوْلُهُ: أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى الْفِقْهِ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى قَوْلِهِ: (بِدَلِيلِ قَوْلِهِ) أَيْ قَوْلِ الْبُسْتَانِ (فِيمَا سَبَقَ) لَا هُنَا بَلْ فِي كِتَابِهِ فَلَعَلَّ أَنَّ مُعْظَمَ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ