أَيْ لَا تُبْطِلُ طَاعَتَهُ قَالَ بَعْضُ الْأَسَاتِذَةِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا حُبُوطَ لِطَاعَةِ الْمُؤْمِنِ بِمَعْصِيَتِهِ وَلَا لِمَعْصِيَتِهِ بِطَاعَتِهِ وَمَنْ قَالَ بِحَبْطِ الْأَقَلِّ بِالْأَكْثَرِ كَأَبِي هَاشِمٍ أَوْ بِدُونِهِ كَأَبِي عَلِيٍّ فَقَدْ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ الْحَبْطِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ الِانْتِفَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمُؤْمِنُ الْمُذْنِبُ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَلَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُونُ الْمُخَالِفُ مُخْتَصًّا بِمَا ذَكَرَهُ قَالَ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ الْخَوَارِجُ تُكَفِّرُ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَتْلِ الْبُغَاةِ وَالْخَوَارِجِ لِارْتِكَابِهِ كَبِيرَةً وَأَيْضًا نَعَمْ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْطُ لَكِنْ ضَرَرُ الْمَعْصِيَةِ مُطْلَقًا مَعَ الْإِيمَانِ مُتَحَقِّقٌ كَتَحَقُّقِ نَفْعِ الطَّاعَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ (وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ) بِمَحْضِ عَدْلِهِ (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لَعَلَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الْكُفْرِ مَجَازًا بِذِكْرِ الْخَاصِّ وَإِرَادَةِ الْعَامِّ أَوْ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مُرَادٌ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ الدَّلَالَةِ فَافْهَمْ وَقِيلَ: هُنَا وَلَوْ نَبِيَّنَا، بِدَلِيلِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أَقُولُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ فَرْضِ الْمُحَالِ بَلْ فَرْضُ مُحَالٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ هُوَ التَّعْرِيضُ.
قَالَ فِي الْإِتْقَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ خِطَابُ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَيْرُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى - {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} [يونس: 94]- حَاشَاهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الشَّكِّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّعْرِيضُ بِالْكُفَّارِ فَحَاشَا ثُمَّ حَاشَا مِنْ احْتِمَالِ صُدُورِ الشَّكِّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ عَدَمُ جَوَازِ الْمَغْفِرَةِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا عَقْلًا فَقِيلَ: يَجُوزُ وَقِيلَ: لَا لِاسْتِلْزَامِهِ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ وَالْحِكْمَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلتَّفْرِقَةِ وَالْكُفْرُ نِهَايَةٌ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَكَذَا وَكَذَا وَأُورِدَ عَلَيْهِ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ مُتَضَمِّنًا لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ كَمَا فِي خَلْقِ الْكُفْرِ وَالشُّرُورِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ التَّفْرِقَةُ بِنَحْوِ إحْسَانٍ لِلْمُحْسِنِ وَبِلَا إحْسَانٍ لِلْمُسِيءِ وَنِهَايَةُ الْكَرَمِ تَقْتَضِي الْعَفْوَ عَنْ نِهَايَةِ الْجِنَايَةِ (وَيَغْفِرُ) بِفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ (مَا دُونَ ذَلِكَ) أَيْ الشِّرْكِ أَيْ مُطْلَقِ الْكُفْرِ (لِمَنْ يَشَاءُ) مِنْ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَلَوْ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ كَمَا لَا يَجِبُ الثَّوَابُ عَلَى الطَّاعَةِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ فِي الْكَبِيرَةِ بِلَا تَوْبَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ وَأَوْعَدَ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ بِالْعِقَابِ فَلَوْ لَمْ يُعَاقِبْ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي وَعِيدِهِ وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِ الْوَعِيدِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ دُونَ الْوُجُوبِ أُورِدَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ جَوَازُ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ وَهُمَا مُحَالَانِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَإِمْكَانُ الْمُحَالِ مُحَالٌ وَدُفِعَ بِأَنَّهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الَّتِي تَشْمَلُهَا قُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرُدَّ بِأَنَّهُمَا نَقْصٌ عَلَى اللَّهِ فَلَا تَشْمَلُهُمَا الْقُدْرَةُ كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ أَقُولُ: إنَّ النَّقْصَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى وَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَمُمْكِنٌ وَإِنْ مُمْتَنِعًا فِي ذَاتِهِ كَانَ صُدُورُهُ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى مُحَالًا فَالْمُحَالُ إنَّمَا هُوَ مُحَالٌ بِالْغَيْرِ لَا مُحَالٌ ذَاتِيٌّ وَالْمُحَالُ بِالْغَيْرِ يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ ثُمَّ قِيلَ: الْجَوَابُ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُطْلَقَاتِ النُّصُوصِ مُقَيَّدَاتٌ وَمُفَسَّرَاتٌ بِقُيُودِ مُقَيِّدَاتِهَا فَتُقَيَّدُ الْوَعِيدَاتُ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ الْعَفْوِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْله تَعَالَى - {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]- مَثَلًا وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ إنْشَاءُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا الْإِخْبَارُ وَأُجِيبُ أَيْضًا بِحَمْلِ نُصُوصِ